كنتُ أعرفُ أن شتاء اللاجئين قاسٍ، ومؤلم، ومليء بالحسرة، لكنني لم أعِ مقدار كل هذا إلا عندما زرتُ تركيا شتاءً، وجرَّبتُ معنى أن تكون ضعيفاً وغريباً أمام شتاءٍ لا يرحم، ومعنى أن تكون في بلادٍ لا تعرف لغتك ولا تفهم لغتها حين تحتاج أمراً ملحاً كالعلاج أو المواصلات أو نوعاً معيناً من الغذاء أو الدواء.
أعرفُ تماماً أن بعض خيام اللاجئين لم تكن قادرةً على ترتيق تمزقها، وأن أهلها يعيشون بداخلها كأنهم في العراء، وأعرفُ جيداً أن معظم اللاجئين لم يكونوا على موعدٍ مع حالٍ أفضلٍ حين دخلوا بلاداً ليست بلادهم، لا يعرفون عنها إلا أنها ستحميهم من القتل أو الخوف، وما ظنوا أنهم سيكونون هناك في قلقٍ دائمٍ لأنهم يرحلون نحو مجهول ليس كما ظنوا؛ فإن هي حمتهم من القتل فلن تحميهم من الجوع والتشرد والبرد والتعب والقلق المستمر والخوف من المجهول القادم بعيداً عن الأهل والدار والاستقرار.
مازلتُ أتذكرُ نظرة الانكسار العميقة التي سكنت عيني عاملة التنظيف في دورات المياه بأحد المطاعم الفارهة التي لم تلتفت إلا لزائريها. تلك العاملة السورية التي استقبلتنا بابتسامةٍ ومحارم ورقية ولهجةٍ شاميةٍ تفوح منها رائحة الياسمين الدمشقي وهي تدعو أن تعود سورية كما كانت وأفضل قريباً؛ كي يعود جميع أبنائها إلى أحضانها. تلك النظرة المنكسرة التي لم تخفها ابتسامتها التي بالكاد ارتسمت على محياها وكأنها جثة شهيد محاطة بالورود وعلم الوطن. امرأة في مقتبل العمر هاجرت كي توفر لأطفالها الثلاثة لقمة عيش وسعادة تظن أنها قد تكفيهم حاجتهم إلى حضن أمهم المغتربة.
ومازلتُ أتذكر توسلات أطفال اللاجئين وهم يمدون أيديهم طلباً للعون كي يشتري لهم السواح وجبة أو يعطوهم أجرة المترو كي يصلوا إلى أماكن سكنهم آمنين بعد يوم طويل ومرهق قضوه وهم يتوسلون الناس مساعدتهم بأصوات منكسرة وقلوب تنزف وطناً مهدوراً.
ليس اللاجئون السوريون وحدهم من يعانون في البلدان البعيدة، بل كل لاجئ غادر وطنه مرغماً خوفاً من الفتك به يعاني. يعاني غربة ووجعاً وقلة حيلة، يعاني قلبه نارين: وجعه لرحيله وغربته، ووجعه لوطنه الذي يبكيه ولا يجد وسيلة يعينه بها غير الدعاء ومحاولة تغيير الواقع بالضغط على الدول الكبرى التي لم تلتفت إليه كي تنتبه وتكف أذاها عنه.
العراقي اللاجئ منذ عشرات السنين خوفاً من نظام بائد، وإرهاب مستمر وتفجيرات يومية وجماعات مسلحة تبيح سفك دمه، السوري الذي اغترب ومازال يحاول الحصول على استمارات اللجوء، وذلك الذي حصل عليها ويحاول أن يلم شمل عائلته، اليمني الذي لم يبقَ في قريته إلا صوت القصف والدمار، والفلسطيني الذي ملّ كل السياسات العربية وهي تتاجر باسمه وتنهب تاريخ بلاده، فيما توغلت السياسات الدولية في الفتك به، والعربي الذي هرب من أنظمته التي تكبل كل حرية يؤمن بها، كل هؤلاء في الهم سواء وفي الألم والشقاء سواء وفي الغربة سواء. ولكن هل جميع المتواجدين في بلادهم أوفر حظاً من جميع اللاجئين، وهل كل مستقر في بلاده لا يشعر بالغربة؟ ذلك هو السؤال!!
إقرأ أيضا لـ "سوسن دهنيم"العدد 4902 - الأحد 07 فبراير 2016م الموافق 28 ربيع الثاني 1437هـ