عنوان المقال هو بالأساس تصريح للرئيسة البرازيلية ديلما روسيف. فقد قالت للصحافيين خلال زيارتها لمركز إدارة عمليات محاربة فيروس زيكا: «ليس لدينا مَصْل لزيكا بعد. الشيء الوحيد الذي يمكننا فعله هو محاربة البعوض» رافعة شعاراً وطنياً يقول إنها لن تخسر هذه الحرب مهما حصل.
وقد قرَّرت روسيف نشر 200 ألف جندي برازيلي يوم الثالث عشر من هذا الشهر للقضاء على البعوض، الذي بدأ يتوحَّش أمام جلود البرازيليين بعد أن تبيَّن أنه ناقل لفيروس زيكا المسئول عن آلاف الحالات «التي وُلِدَ فيها أطفال برؤوس صغيرة» ومِخَاخٌ «لم تتطور بشكل سليم». وباتت دول كالسلفادور تطلب من مواطنيها تأجيل الإنجاب لمدة عامين، كون الأمر غاية في الخطورة.
البعوض الذي يسمّيه البعض بـ البَق، أو الجِرْجِسْ إن كان صغيراً هو من أضعف الحشرات «ظاهرياً» لكنه في الحقيقة وَحشٌ كاسرٌ إذا ما قارناه بحجم الواحدة منه ووزنها الذي لا يزيد عن الواحد على ألف من الغرام، يُساعدها في ذلك جسم مهيّأ للانقضاض على ضحاياه بشكل لا يتخيله أحد.
فتكوين البعوضة فريد من نوعه. يقول العلماء أن لها ثلاثة قلوب واحد بمثابة الأم، وثانٍ لعمل الجناح الأيمن، وثالث لعمل الجناح الأيسر، ولكل قلبٍ من القلوب الثلاثة أُذَيْنيْن لاستقبال الدورة الدموية من الوريدين والرئتين حسب وظيفة كل منهما، وبُطَيْنيْن لضخ الدم في الشرايين.
والأهم أن لها أربعة أنظمة معقدة تجعلها قادرة على إتمام هجومها الكاسح: الأول: جهاز استقبال تتحسّس به الأشياء «حرارياً»، حيث يُرشدها هذا الجهاز للمكان الأكثر توهجاً بالحرارة في البيت أو الشارع، لذلك فهي تترك كل شيء تقل حرارته عن الإنسان فتلجأ للأخير كي تعضّه.
وجهاز آخر لتحليل للدم، فهي لا تلعق أيّ دم تصادفه قبل أن تأخذ منه عَيِّنة لتحلّله في مختبرها، فإن استساغته واصلت في مصِّه، وإن لم يُناسبها تركته، ومِنْ هنا، يتخيَّر البعوض الدماء وكأنه يمتلك ذوقاً في عَضِيْضِه، فيلجأ إلى جَسَدِ بعينه، ويترك آخر ينام بجانبه.
وجهاز ثالث لتمييع الدم كي لا تواجه صعوبة في الإرقاء، حيث أن دم الإنسان مُخثَّر بالنسبة لها، وبالتالي فهو لا يمر في قناة سَحْبِه. وجهاز أخير للتخدير يُمكِّنها من إنجاز عملية التحسّس وتحليل الدم وتمييعه دون أن يشعر الإنسان حتى بسكاكينها الستة التي تجرح بأربع منها وتمص باثنتين.
هذا الكائن الغريب المتكاثر في أماكن توافر الماء من أنهار ومستنقعات ومياهٍ آسِنَة كان ومايزال واحداً من أخطر وسائل نقل الأمراض في العالم. وبالمناسبة كان من أشد الحشرات فتكاً بالإنسان القديم، ولاسيما أهل المَدَر أصحاب البيوت، بخلاف أهل البادية الذين كانت تحميهم الشمس.
نأتي الآن إلى «المصيبة الدَّائيّة الجديدة» التي جعلت من رئيسة أكبر دولة أميركية جنوبية أن تُعلِن بأنها في حرب مع البعوض. ففايروس زيكا الذي يشكو المصابون به من حمى خفيفة وطفح جلدي والتهاب الملتحمة في مدة يومين وسبعة أيام بات منتشراً في اثنين وعشرين دولة في العالم، ويتعذر اكتشافه بسهولة إلاّ إذا حصل الفحص خلال الأسبوع الأول من الإصابة.
وقد بات المِعْوَل الذي يستخدمه ذلك الفيروس هو البعوض الذي لا يُستَهان به في ظل ما يملكه من قدرات مثالية للانقضاض على أجساد الناس. وللعلم فإن هذا الفيروس موجود منذ سنة 1947م عندما اكتشِف في القرود بأوغندا ثم في البشر سنة 1952م في أوغندا وجمهورية تنزانيا المتحدة.
وأمام ذلك الهَلَع العالمي، الذي جعل الدول والمنظمات تعقد مؤتمراتها لمناقشة الوضع الصحي لديها، ينتاب المرء شعور بأن هذا الإنسان يعيش في حلمٍ دائم لا يفيق منه إلاَّ عندما يُنبهه أحد. ذلك الحلم هو حلم التطور الذي يُحرزه عاماً بعد آخر. تطور في الطب والفضاء والتكنولوجيا وكافة العلوم، إلاَّ أن الزمن والتجربة تُفاجئه بأنه لم يستطع بعد تجاوز أبسط المشكلات والعقد، بل ولا يستطيع أن يُعالجها أو يتّقيها بتقدمه «الهائل» بل بوسائل تعتبر أوَّليَّة أمام ما وصل إليه.
ففي حالة فيروس زيكا مثلاً، تطالب منظمة الصحة العالمية الناس باستخدام الملابس ذات الألوان الفاتحة «التي تغطي أكبر قدر ممكن من الجسم؛ وإغلاق الأبواب والشبابيك؛ واستخدام الناموسيات عند النوم، وإفراغ الدلاء وأواني الزهور وأطر السيارات من الماء» للحد من تكاثر البعوض. وهي تنصح بذلك (أي المنظمة) لأن العلماء لم يعودوا قادرين بعد على اكتشاف مصْل للمرض (فيروس زيكا) وليس لها حيلة سوى تلك الإرشادات.
مثل هذه الأمور تُحسِّسنا فعلاً أن الإنسان مايزال في بداية مشواره العلمي، وأن لا نهايات ولا يقينيات فيما يصل إليه، وعليه أن يقتنع أنه بعيدٌ غاية البُعد عن شيء اسمه المُنتَهَى. بل والأغرب أنه وفي غالب الأحداث لا تكون المبادرة بيده، بل هو يخترع ويقتحم العِلم كي يتخلص من عقبات تواجهه وكأنه أمام قلعة مُوصَدة، كلما استطاع أن يفتح باباً فيها وجد خلفه آخر وهكذا.
هذا العالم يجب أن يقتنع بأنه مهما حلّق في السماء واكتشف من أسرار العلم فإنه غارق في الضعف والحاجة وفي النِّسبيَّة وفي اللايقين. لذلك فأقصى ما نستطيع فعله هو أن نبحث ونجتهد للحصول على ما يعيننا على ما نحن فيه ولكن دون أن نقتنع بأننا أصبحنا شيئاً يذكر أمام هذا التيه. وكما قال أندريه جيد: «صدِّق من يبحثون عن الحقيقة، وارْتَبْ مِمَّن وجدوها».
إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"العدد 4898 - الأربعاء 03 فبراير 2016م الموافق 24 ربيع الثاني 1437هـ
مقال مميز
حقيفية، بين مزجت وأدخلت غالبية الجوانب الخاصة بالموضوع بشكل ممتاز، وأضفتها إليها بعد القصور العلمي بصورة مميزة خلاف ما يتم تناوله، بحيث تجعل من المقال مفيداً من ناحية الخضوع للإرادة العليا والجبارة، والخنوع المطلوب قبال الواحد الأحد الذي بيده كل شيء ... فشكراً من صميم العلم بحقيقة الكتابة للكاتب .
مقال يجبر القارئ على القراءة والاعجاب كعادة الاستاذ محمد.
طبعا كل مرة يطلع لنا مرض جديد ويكتشف علاجه في الغرب ويدر عليهم مليارات الدولارات.
يا ترى هل هذه الامراض طبيعية ام مفتعلة؟!! الله العالم
شكرا لك على هذا المقال
الله يكفينا الشر والضر
وايفرج عنهم وايشافيهم
تعالى الله وجلت قدرته
مهما بلغ الإنسان من العلم والقوة يجد نفسه عاجزا أمام قدرة الله
المقال مفيد لكنه يحتاج لارقام واحصائيات
Nice Mohammed