أحزنني اليأس الذي دفع صديقتي العربية إلى التفكير في الهجرة من بلدها إلى كندا بعد أن فشلت في الحصول على الجنسية لابنيها بسبب أن زوجها عربي من جنسية أخرى. ولا يسمح القانون للمرأة المتزوجة برجل من جنسية أخرى في بلدها، كما في معظم البلدان العربية، أن يحصل أبناؤها على جنسيتها التي كانت تجتهد للحصول عليها بسبب أن جنسية الزوج لا تعني أي أمان للأبناء في ظل الظروف السياسية الحالية التي تعيشها بلد الأب، والمنظورة مستقبلاً. صديقتي يبلغ عمر ابنيها الآن 12 عاما و10 أعوام.
ما أحزنني ليس أمر الهجرة لأنني أعرف أن مستقبلاً أفضل بكل المقاييس ينتظر الولدين هناك بلا شك لو تمكنت صديقتي من تحقيق ما تسعى إليه. ما أحزنني هو أن صديقتي لم يشفع لها في تمسكها بالبقاء هي وعائلتها، أنها تعتبر أيقونة اعلامية في بلدها. ففي 2011 كانت أحد 10 اشخاص أوصت إحدى المؤسسات الثقافية السياحية أن يتم مقابلتهم لمن أراد أن يتعرف، عن قرب، على ثقافة البلد. ذلك رغم أن صديقتي هذه لا تعمل في مؤسسة رسمية فهي لا تحصل على معيشتها من وراء وظيفة في هيئة سياحية أو ثقافية ولكنها نشطة، بشكل تطوّعي ومحب لاستكشاف كل جميل في بلدها وفي حياتها وبثه بطاقة إيجابية طاغية في وسائل التواصل الاجتماعي، كما لا تتوانى عن التوعية، بجرأة مخلصة، بالقصص السيئة دفعاً لإصلاحها، مما جعل لها موقعاً محببًا اجتماعياً ومعروفاً ومهماً.
عندما سألت صديقتي كيف ستتخلى عن المكانة التي صنعتها لنفسها! قالت بكلمات حاسمة «إن المستقبل للأبناء». ولم يرقَ لمعادلته في عينيها كل ما تعرف أنها ستتخلى عنه وتخسره وهي تقدم على هذه الخطوة تأميناً لمستقبل ابنيها.
لم يخطر ببال صديقتي يوماً وهي تضع لبنات مكانتها وتستثمر في نفسها ووقتها وأسرتها وتصنع لها اسماً ومكاناً أن يأتي هذا اليوم الذي تتخلى عن كل شيء وتتركه وراءها وتبدأ حياة جديدة في وطن بديل.
صديقتي ليست الوحيدة من معارفي الذين فاجأتهم الحياة بخيار الهجرة كأحلى الخيارات المرّة المتاحة أمامهم، والبعض لم تكن الهجرة خياراً له بل الملجأ الوحيد، «صدقة» من الدول الكبرى التي تخصص سنويا، كما يخصص أي شخص أو مؤسسة، المساعدة والمأوى لمن يحتاجه من الآخرين، عندما تتحقق أن لا خيار أمامه إلا بابها يطرقه بحثاً عن حياة كريمة له ولأسرته. تفعل الدول ذلك تكريماً للإنسان في طالب اللجوء بغض النظر عن عرقة ولونه وانتمائه الديني أو العقائدي أو الفكري.
تتعدد الأسباب التي تدعو للهجرة الطواعية وتنتهي بالتهجير القسري لكن ليس من بين المهاجرين، من يختار طواعية ترك موطنه إن كان يعيش بكرامة وأمان ويرى على مرمى عينيه مستقبلاً آمناً لأبنائه. فكل المهاجرين وطالبو اللجوء هاربون من حياة تتساوى مع الموت أحياناً في أوطانهم، فلا يبالون بمخاطرة أسوأ ما سيحدث لهم خلالها هو الموت، فهم ميتون لا محالة في أوطانهم التي أتى عليها الخراب.
في روايته «مرسى فاطمة» يصف الكاتب الأريتيري حجي جابر ذلك بأنه» لا يترك الواحد منا وطنه مالم يقم الوطن بذلك أولاً».
ومن وطننا العربي تؤكد على ذلك أرقام منظمة الهجرة الدولية بالإشارة إلى أن 102 ألف مهاجر غير شرعي انتقلوا عبر البحر من الشرق الأوسط وافريقيا من بينهم 56 ألف مهاجر إلى إيطاليا عبر ليبيا و46 ألف وصلوا إلى اليونان عبر تركيا. ولم يحالف الحظ 1500 من هؤلاء للوصول أحياء فقضوا غرقاً في رحلة العبور من الموت إلى الحياة.
في سيرة الهجرة، التي أصبحت تتكرر حولنا في السنوات الأخيرة، تأتي كلمات رواية «مرسى فاطمة» معبرة بدقة متناهية عن شعور عشاق الوطن الباحثين عنه في داخلهم وعن أنفسهم فيه. جاءت برمزية العشق الذي يجعل بطل حجي جابر لا يرى غير المرأة التي يعشقها ويبحث عنها على مدى الرواية ويتحمل أي شي وكل شيء من أجلها، وبأمنية الوصول إليها. وكأن الكاتب قد تمكّن من أعماق عشاق الأوطان عندما تلوح الهجرة لهم خياراً أو اضطراراً، ووصف الصراع بين البقاء بالاتكاء على ذلك العشق الذي ينجو بالعاشقين أينما كانوا وكيف تسنّى لهم العيش، وبين رغد الحياة الذي يعتقدون أنه ينتظرهم خارج حدوده.
في الرواية يكتشف بطلها أن حبيبته تبحث عنه كما يبحث عنها، تحتاج إليه كما يحتاج اليها، وتحملت من مشقة البحث عنه كما تحمّل هو في بحثه عنها. كان عشقاً متبادلاً لم يسمح الكاتب لخياله أن يكتب له نهاية سعيدة، تماماً كما هو الواقع حيث لا تبدو نقطة التقاء بين عشق الأوطان بعشق أبنائها لها في محطة اكتمال السعادة.
ترى هل سنكون آخر جيل تمثل له هذه الرواية إحساساً واقعياً عندما يتعلّق الأمر بالهجرة! هل ستكون غربة الهجرة ألما ملهماً فقط في قلوب الأدباء! كما قال عنها مغترب العرب الأشهر جبران خليل جبران:
«في الغربة وحدة قاسية، ووحشة موجعة، غير أنها تجعلني أفكر أبداً
بوطن سحري لا أعرفه».
فبرغم الخلفية الكلاسيكية لمعنى الهجرة وما ترتبط به في أذهاننا بشعور محزن بالغربة، إلا أن المتغيرات من حولنا تقترح أننا ربما نكون آخر جيل يحمل هذه الخلفية في داخله، وعلينا أن نحتمل غربة الأوطان التي تعيشها صديقتي حالياً في وطن لا يبادلها العشق. فأبناؤها الذين ستتحمّل غربة الهجرة بمعناها الكلاسيكي من أجلهم هم أبناء هذا الجيل من ذوي العقول العابرة للقارات، أبناء ثورة الاتصالات. لم يعد الوطن لهؤلاء تراباً وبيتاً وطرقاً يعبرونها ذهاباً ومجيئاً إلى مدارسهم وأعمالهم. وإنما هو المكان الذي يجدون فيه أنفسهم يفعلون فيه ما يحبون. حدود أوطانهم لن تكون جغرافية كما يعرّفها جيلنا بقلبه، بل ستكون بمدى ما تذهب إليه عقولهم وتحلق بحرية، وسينشئ كل منهم وطناً يحمله في داخله ويحمل معه أمان الوطن أينما ذهب.
ذلك يكشف عن تقدّم فكر الفيلسوف الأندلسي ابن رشد عندما قال في القرن الحادي عشر أن «العلم في الغربة وطن والجهل في الوطن غربة»، وجاء من بعده من وضع على وزنها مقولة «الغنى في الغربة وطن، والفقر في الوطن غربة». بين هاتين المقولتين يقف جيلنا الذي يغترب مهاجراً من أجل العيش، ومهاجر ابن رشد، جيل أبنائنا الذي لن يعرف الغربة عندما يهاجر من أجل الحياة.
إقرأ أيضا لـ "هناء بوحجي "العدد 4897 - الثلثاء 02 فبراير 2016م الموافق 23 ربيع الثاني 1437هـ
الغنى في الغربة وطن و الفقر في الوطن غربة ... مقولة خالدة للامام علي ثم جاء من بعده ابن رشد ..
بئس الوطن لا يوفر الامن والعيش امواطنية
قال امير البلغاء علي عليه السلام :
الغنى في الغربة وطن والفقر في الوطن غربه
ولو كان الفقر رجل لقتلته
اذا يجب على الوطن توفير المعيشة والامن والامان بجميع اصنافه لابناءه والا فبئس هذا الوطن .
ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها.
يقول الشاعر المتنبي:
إذا ترحلتَ عن قومٍ وقد قدروا * ألا تغادرهم، فالراحلون همُ.
ويقول آخر:
ديارٌ ألفناها على كل حالةٍ * وقد يؤلفُ الشيءُ الذي ليس بالحسن
وتستعذبُ الدارُ التي لا هوى بها * ولا ماؤُها عذبٌ ولكنها وطن.
الكاسر
ما احلي الهجرة لكسب الرزق والعيش بحياة مستقرة وحكومة منصفة لشعبها حتي وان تعددت جنسياتهم