من المفارقات المؤلمة أن تتحول المساجد في ديار الإسلام إلى كمائن لقتل أكبر عدد من المصلين الذين يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وجه المفارقة أن هؤلاء ينفذون جرائمهم في حق أناس يعتبرونهم ضالين وبدلاً من إضاعة الوقت والجهد في هدايتهم يقررون قتلهم في أقدس مكان عند المسلمين: المساجد، والله تعالى يقول: (وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا).
هذه أحداث صارت اليوم جزءاً من واقع عربي وإسلامي أليم وبالغ البشاعة، أبرز سماته الفوضى والغباء والجهل، واقع معقد ومتشابك، تتداخل فيه مصالح قوم مع آخرين، ويتحالف فيه الجهل مع المال السياسي، واليأس مع الانتقام، واقع يتواجد فيه كل شيء عدا العقل والقانون والدين الداعي إلى الرحمة وتبجيل الحياة، وإكرام البشر وتوقير الكرامة والإنسانية.
الحادث الذي وقع بعد صلاة الجمعة (29 يناير/ كانون الثاني 2016)، في مسجد الإمام الرضا بحيِّ «محاسن»، في محافظة الأحساء السعودية. وأسفر العمل عن استشهاد أربعة مصلِّين، وجرح 18 شخصاً، حلقة من سلسلة طويلة سبقتها حلقات وليس من الواضح أنها ستكون الأخيرة بلحظات ما توفره البيئات الحاضنة لهذا الفكر العدمي المجنون، وبلحاظ عناصره المحفزّة والمولّدة لهذا الانتاج البشع من الجرائم الصادمة للضمير.
يروي الكاتب خالد القشطيني: «سمعتُ من والدي عن هجمات القبائل البدوية في العراق على المدن في العهد العثماني. يحتلونها لبضعة أيام، ينهبون ما يستطيعون نهبه وينشرون الخراب فيها ثم يعودون من حيث جاؤوا. غير أنهم كانوا صادقين في عملهم، فلم يدّعوا بأنهم رسل الإسلام أو يسعون للخلافة أو إقامة دولة. كانوا مجرد سلاّبين نهابين شأنهم شأن أمثالهم من البدائيين في شتى ربوع العالم المتخلفة». فمشكلة هذا الفكر أنه يتخذ من الدين وسيلة لتبرير جرائمه، فيرتكب جريمتين: اختطاف الدين، وتهديد السلام العالمي.
قبل أشهر كتب عبد المنعم سعيد في إحدى الصحف الدولية مقالة قيّمة بعنوان «اللحظة الفاشية» وقد ذكر بأن: «اللحظة الفاشية» مثلها مثل «العاصفة الكاملة»، حالة تعبر عن فترة زمنية تمر مثل لمح البصر في تاريخ الشعوب والأمم، ولكنها فيها تتقرر نهاية فترة من الانقلابات والزلازل والأعاصير؛ باختصار فترة لا يعود فيها التحكم في الأحداث ممكناً، ولا يعود فيها النظام - أياً كان بشرياً أو مادياً - إلى نقطة من التوازن، إلا بعد درجة كبيرة من العنف والدمار.
وقدم سعيد استقصاءً تاريخياً يشرح فيه فكرته بادئاً من «الثورة الفرنسية» وتوابعها من الحروب النابليونية وظهور الحركات العمالية والاشتراكية، إلى أن يخلص إلى نتيجة مفادها أن هذه الموجات تعبر عن أربعة أنواع من التحدّيات:
الأول تحدي الموت في مواجهة الحياة، فالأصل في الوجود الإنساني هو الحياة حتى يُقضى أمر الله في عمر الإنسان؛ أما أن يصير ذلك رهناً بإرادة أخرى تتخيل بإمكانية فرض ذلك على البشر فهو جوهر التعصب العنيف، الذي لا يعتد بأي معنى بالحياة الإنسانية حتى وهي تمارس وتنفذ أوامر إلهية بالصوم والصلاة.
لاحظ، وكل الأمور الآن صارت مرئية، أنه لدى «داعش» أو «القاعدة» وكل الجماعات المماثلة أن لحظة القتل يكون فيها القاتل على درجة عالية من النشوة والسعادة. هؤلاء لا يوجد لديهم أنه كتب عليهم القتال وهو كره لهم، وإنما هو مطلب تزداد سعادة المرء بالمزيد منه.
كافة الشهادات التي جاءت عبر الوثائق عن معسكرات الاعتقال النازية شهدت بتلك الحالة من «النيرفانا» التي يصل القاتل إليها ساعة القتل أو بعدها؛ وفي حالتنا فإنه لا يجد غضاضة في أن يلعب الكرة برأس إنسان ذُبح تواً.
والثاني تحدي الخراب في مواجهة التنمية، لأن الأصل في حياة البشر هو إقامة العمران في الأرض؛ ولكن اللحظة الفاشية تنطوي على العكس الكامل لهذا القول. وسواء كان ما نتحدث عنه هو خطوط الكهرباء في مصر، أو مناطق أثرية مثل الكرنك في الأقصر أو تدمر في سورية، فإن «الحضارة» قديمها وحديثها هي الموضوع.
العجيب في الأمر أن الجماعة الفاشية لديها نوع كبير من الصلف الذي يدعي أنه يأتي لإنقاذ البشر مما وقعوا فيه من ضلال، وما وصلوا إليه من ظلم، فتكون النتيجة وباستخدام العنف، هي قتل هؤلاء المطلوب إنقاذهم، أو تدمير وسائل معيشتهم، أو إجبارهم على العيش في ظل ظروف مذلة.
والثالث تحدي الغريزة في مواجهة العقل، وكانت هذه هي حالة المواجهة التي تعبر عن «اللحظة الفاشية» التي تأتي لكي تعطي السيطرة والهيمنة للغريزة ومشاعر الكراهية والمقت والبغضاء؛ مع قدر هائل من الاحتقار لكل ما هو مختلف أو متنوع.
ورابعاً تحدي الخوارج للدين الإسلامي ذاته، حيث بدأت هذه الجماعات بإعادة تركيب الدين الإسلامي بالطريقة التي تتيح لجماعة سرية - تماماً كالخوارج في عصر الفتنة الكبرى - أن تشعر بالتفوق الفكري والعنصري على كل من عداها. وهي لا تصارع المجتمع والدولة العربية والإسلامية فقط، بل تتصارع - إن لزم الأمر - فيما بينها.
الشيء المؤكد أن هذه التنظيمات التكفيرية ستندحر، لأنها تواجه العالم كله، ولكن ذلك سيكون بحروب طويلة وبثمن باهض، لأن أمد «الرعاية» ومقدار ما صرف عليها دعماً وتخطيطاً كان هائلاً.
إقرأ أيضا لـ "وسام السبع"العدد 4896 - الإثنين 01 فبراير 2016م الموافق 22 ربيع الثاني 1437هـ
لكن دارت الدائرة
اليوم رد العراقيون الهجمات على القبائل البدوية بدل الصاع صاعين
انهم ادوات الشيطان يا عزيزي وهم نواتجه وهم ليسوا المشكلة بقدر ما في الحاضة المفرخة من مشكلة و بقدر ما للفكر المجتمعي العقائدي من مشكلة تجعل حل عقدها مستصعب