العدد 4895 - الأحد 31 يناير 2016م الموافق 21 ربيع الثاني 1437هـ

كاظم: لا سبيل للتعايش إلا بالاعتراف المتبادل والإقرار بانعدام تفوُّق سردية على أخرى

«إعادة كتابة التاريخ»... لمجموعة من المؤلفين والمترجمين...

نادر كاظم - إدوارد سعيد
نادر كاظم - إدوارد سعيد

يُقدِّم الجزء الأول من سلسلة «مرايا» (إعادة كتابة التاريخ)، والذي حمل كتابات وترجمات لبحرينيين وعرب، في الغالب رؤية غربية في تناول قضية ومفهوم «إعادة كتابة التاريخ»، وجُلُّ المعالجات والأفكار هي من صميم الاشتغال الغربي على البيئة نفسها، وإن جاءت الأطروحات عامة، تعالج إشكال الحاجة أساساً إلى إعادة الكتابة تلك؛ لكنها تكاد لا تقترب من الأسباب التي أبرزت وتُبرز مثل تلك الحاجة، ولا تتاخم المُؤديات ضمن النطاق والفضاء العربي، إن صح أن نطلق عليه فضاء بتكريس ما تمت كتابته من جهة، والتعامل مع الحاضر ضمن صيغ ليست بمناى عن ذهنية وعقلية الذين كتبوا، أو كانوا من وراء كتابة ذلك التاريخ، بكل ما فيه من «تلفيق» و «اختلاق» فرضه تكريس لمصالح لا تقتصر على منافع السلطة وحدها، بل يمتد إلى تكريس الهويات والمذاهب، وحتى الحدود. المساهمات العربية لم تنأَ أيضاً عن المناهج تلك، وإن طوَّعتْها لبحث جانب من الحالة العربية المتمثلة في فلسطين والفلسطينيين، في جانب من معالجات للمفكر الأميركي من أصل فلسطيني إدوارد سعيد، وتناول آخر للباحث والأكاديمي نادر كاظم، لامس في مساحة كبرى من ورقته فضاء الشرق تحديداً، ضمن العميق من هذا الإشكال.

المساهمة الأولى التي حملت عنوان «التاريخ والسرْد والاختلاق»، يشير كاظم فيها إلى أن التعارض بين السرديات الثقافية العريقة؛ ناهيك عن السرديات المفبركة التي تم تنظيمها وتركيبها في العصر الحديث للقومية العربية والهوية الإسلامية من قبل التيارات القومية والإسلامية الحديثة، كل ذلك لا سبيل أمامه للتعايش والتصالح والتسامح إلا بالاعتراف والتفهُّم المتبادل، ومواجهة كل سردية في ضوء السرديات الأخرى، وذلك بما يستلزمه هذا الاعتراف والمواجهة من إقرار بانعدام تفوُّق سردية على أخرى، وانعدام وجود سردية أصيلة وصحيحة وأخرى زائفة وخاطئة».

وفي المساهمة الثانية التي حملت عنوان «التاريخ بوصفه سرداً وتأويلاً» يقول: «دراسة التاريخ لا ينبغي أن ترهن وجودها ومقصدها في الرغبة في الوصول إلى الأحداث كما وقعت، بل ينبغي أن يكون المقصد من وراء ذلك أن نستكشف ما اختزنته الذاكرة الجماعية من هذه الأحداث».

حين تلحُّ على المهتمِّين قضية «إعادة كتابة التاريخ» فذلك يعني أن هناك خللاً ما. هناك قفز على الحقائق من جهة، وخروج على الآليات - في درجات ما - الضابطة لكتابة ذلك التاريخ. يعني أيضاً فيما يعني، أننا إزاء مشكلات ومآزق لم تتراكم عبثاً ولم تسدّ شريان العلاقات والفهم وتُدخل الوجود الراهن في اضطراب ومجهول، إلا بإصرار كل جماعة على سرديتها الخاصة.

هناك يقين بوضعية تلفيقية متورط فيها ذلك التاريخ والذين كتبوه، يمكن الوقوف عليها استناداً إلى مناهج البحث والتحقيق والنظر والمُساءلة. التلفيقية التي تنكبُّ على الاصطناع وجمْعه، وإن بدا غير ملائم أو منسجم للخروج بصيغة تثبِّت جماعة أو أفكاراً أو مذاهب أو سلطة، باللعب على قيمة السرديات التي يمكن توجيهها إذا ما توافرت السلطة والهيمنة والقوة، وحتى الموارد.

استعادة الأفق في الخيال

تتصدَّر مقالة كاظم «التاريخ والسرْد والاختلاق» مقولة هومي بابا «إن الأمم مثل السرْديات، تفقد جذورها في خضمِّ الزمن وأساطيره، ولا تستعيد أفقها إلا في الخيال»، من دون أن ننسى أن أفق الخيال ذاك لن يبرح حالات من الاختلاق تعتاش عليها بعض الجماعات والأمم.

في تناول كاظم لمحاولة «الاستعادة الخيالية» يشير إلى أنها مهمَّة المُتخيَّل الجمْعي للمجتمعات، كما أنها مهمة علم التاريخ الأولى. ثمة سردية سترشح عن تلك المهمة في حدود «المُتخيَّل الجمعي»، وهو ما يجعل من «الاعتراف والمواجهة من إقرار بانعدام تفوُّق سردية على أخرى»، و «انعدام وجود سردية أصيلة وصحيحة وأخرى زائفة وخاطئة»، أمراً غاية في الصعوبة ضمن البيئات والجماعات التي لا يشكل بقاء تاريخها ملغَّماً ومفتعلاً ومختلقاً أية مشكلة تذكر (في حدود الجماعة الواحدة)، وتعمِّق من تثبيته وتكريسه، وتبتدع نظُم عقوبات يحدُّ من المساس به، أو الاقتراب منه!

يصل بنا الأكاديمي كاظم إلى المنظور ما بعد الحداثي للتاريخ، بتشديده على ضرورة «النظر إلى التاريخ من منظور مفاهيم مثل (البنْية) و (النسَق) و (النموذج) و (الاختلاق) و (الاختراع) و (الفبْركة) و (التلفيق)». موجزاً خلاصة الرؤية، في الفارق بين الموضوع ومعرفة الموضوع، فالتاريخ شيء ومعرفة التاريخ شيء آخر. إننا لا نعرف التاريخ في حقيقته، بل إننا لا نمتلك إلا نماذج إرشادية وأطراً مرجعية نستطيع من خلالها أن نشرح ونفسِّر ونؤوِّل هذا الذي نسمِّيه بـ (التاريخ).

ومن المنظور نفسه، يشير إلى أن التاريخ أو الهويات موضوع موجود ولكنه ليس موجوداً وجوداً أصيلاً وجوهرياً، كما أنه لا يوجد مرة واحدة وإلى الأبد. وعلى هذا، فإن التاريخ والهويات موضوع لعبة خطرة، فهو شيء يتم خلقه واختلاقه وتلفيقه وفبْركته، لا الكشف وإماطة اللثام عنه، وكثير من هذه الأفكار يمكن تلمُّسها عند كل من: ليفي شتراوس، رولان بارت، ميشيل فوكو، جاك دريدا، جيل جلوز، إلا أن الممثل الأهم والأبرز لهذا المنظور هو: هايدن وايت، إدوارد سعيد، هومي بابا، ليندا هاتشيون، مارتن برنال، كيث وايتلام، وتودوروف.

هيمنة السرديات الكبرى

علينا أن نقف هنا عند مصطلح «السرديات الكبرى»، ذلك الذي نحَتَه الفيلسوف والأديب الفرنسي جان فرانسوا ليوتار في العام 1984، ملتفتين إلى أنّ لفظ السرديات لا يعني القصص، وإنما «ما تستند إليه فئة من الفئات استناداً ضمنياً في بناء مقولاتها، فلكل فئة سردية مرجعها الهيكلي النهائي الذي يقوم عليه فسيفساء فكرها».

وفي هذا الإطار، يتناول ما يهجس به إدوارد سعيد نظراً لدور (الاختلاق) الخطير؛ «وخصوصاً في مسائل التراث والهويات القومية والدينية وخبرات الأمم الجمعية. ففي (الاستشراق) كان رهان سعيد يتحدَّد في فضْح وتعرية السرْد الغربي الاستعماري الذي فرض سردية كبرى مهيمنة، وهمَّش بقية السرديات المحلية أو أعاد تشكيلها وتنظيمها بما يتناسب مع مصالحه، وبما يخدم سرديته المهيمنة.

في انتقالاته بين الأطروحات التي تُعزِّز رؤيته ينوِّه كاظم إلى كتاب صدر في العام 1983، ليس بمنأى عن سياق تعرية عملية اختلاق التاريخ والتراث، كتبه كل من: أريك هبسباوم وتيرينس رينغر، وقد ضمَّ الكتاب مقالات متعدِّدة جُمعت تحت عنوان (اختراع التراث). تناول الكتاب الطريقة التي شرعت فيها السلطات السياسية منذ العام 1850 في اختراع واختلاق شعائر وأشياء وهويات زعمت أنها قديمة قِدَم الدهر، وذلك من أجل تسويغ كل تراث الاستعمار الذي جرى تبريره عبْر سردية تقرِّر أن الاستعمار لم يكن إلا أداة للتغيير والتحديث.

آخذاً بنا إلى كتاب «الثقافة والإمبريالية» الذي بذل فيه إدوارد سعيد جهداً كبيراً في «تعرية عملية اختلاق التراث والذاكرة والخبرات الجمعية في التواريخ الاستعمارية المُهيمنة، ولكن من خلال وضع قطبي المعارضة والمزدوجة الاستعمارية وجهاً لوجه». فتاريخ المُستعمِر يُوضع مقابل تاريخ المُستعمَر، وسردية المستعمِر تقابل سردية المستعمَر. وفي آخر مقالاته، تعرَّض سعيد إلى معالجة العلاقة بين السرْد الإسرائيلي والسرْد الفلسطيني، وذلك من منظور دور (الاختلاق) في إعادة تشكيل الذاكرة الجمعية، وإعادة تنضيد مشْهدية المكان.

التفاعل بين الذاكرة والمكان والاختلاق

ويورد كاظم ضمن فضاء التناول تساؤل إدوارد سعيد عمَّا يمكن أن يفعله التفاعل بين الذاكرة والمكان والاختلاق فيما لو لم يُستخدم للإقصاء، فيما لو استخدم للتحرير والتعايش بين المجتمعات التي يتطلَّب تجاوزها شكلاً محتملاً من التصالح الثابت»؟ مشيراً إلى أن القضية الفلسطينية مثال جيد في هذا الشأن، فلكل من الفلسطينيين والإسرائيليين سرديته الخاصة والمتعارضة مع سردية الآخر، غير أن الجانبين مضطران إلى التعايش السلمي والمتسامح» مقتبساً من سعيد ما كتبه في هذا الخصوص «معظم الفلسطينيين غير مبالين بقصص المعاناة اليهودية، وكثيراً ما يصيبهم الغضب بسببها» كما «يرفض معظم الإسرائيليين أن يُقرُّوا بأن (إسرائيل) قد شُيِّدت على أنقاض المجتمع الفلسطيني، وأن نكبة العام 1948 لم تزل مستمرة لغاية الآن بالنسبة لهم».

موضحاً أن مثل هذا التعارض بين السرديات الثقافية العريقة؛ ناهيك عن السرديات المفبركة التي تم تنظيمها وتركيبها في العصر الحديث للقومية العربية والهوية الإسلامية من قبل التيارات القومية والإسلامية الحديثة، «كل ذلك لا سبيل أمامه للتعايش والتصالح والتسامح إلا بالاعتراف والتفهُّم المتبادل، ومواجهة كل سردية في ضوء السرديات الأخرى، وذلك بما يستلزمه هذا الاعتراف والمواجهة من إقرار بانعدام تفوُّق سردية على أخرى، وانعدام وجود سردية أصيلة وصحيحة وأخرى زائفة وخاطئة».

استكشاف ما اختزنته الذاكرة الجماعية

في «التاريخ بوصفه سرْداً وتأويلاً»، لا يبتعد كاظم كثيراً عن ترتيبه للأطروحات، مع حضور لافت لرؤيته؛ وهو في هذا الورقة أكثر حضوراً من الأولى التي أكثر فيها من الاستناد إلى اقتباسات ورؤى عديد من المفكرين والفلاسفة الغربيين. ويشير في مقام دراسة التاريخ إلى أنه «لا ينبغي أن ترهن وجودها ومقصدها في الرغبة في الوصول إلى الأحداث كما وقعت، بل ينبغي أن يكون المقصد من وراء ذلك أن نستكشف ما اختزنته الذاكرة الجماعية من هذه الأحداث، وما ارتضته هذه الذاكرة من طريقة ما في سرْد هذه الأحداث، وفي تأويل دلالاتها المقبولة».

مُعرِّجاً على اللغة التي يتشكَّل بواسطتها التاريخ وعبْر مفرداتها وتراكيبها وإمكاناتها التعبيرية كما أن «هذه اللغة ذاتها ليست بريئة من تورُّطها في أشكال من الرؤية الأيديولوجية» التي تحدد للمؤرخ زاوية الرؤية للأحداث، كما تتحكَّم في طريقة التأويل المناسبة والمتناسبة مع ضغوط الظروف التاريخية وإكراهات السياقات الثقافية».

وضمن مفصل مهم في هذه المعالجة والبحث يوضح كاظم أن الأحداث والبنْيات والعمليات والعلاقات والشخصيات التاريخية الدَّالة لها قيمتها ولها أهميتها في الذاكرة الجماعية، وسواء وقعت بالفعل أم لم تقع. «وبدل التفتيش عن الأحداث الممكنة والمستحيلة واقعياً، كان من الأجدى أن نتحدَّث عن الأحداث من خلال التمييز الذي يقترحه بول ريكور هذه المرة بين الحدث القابل للاعتقاد والمتاح في فترة معينة، وبين الحدث غير القابل للاعتقاد في فترة معينة، ومن خلال أفق انتظار الجماعات الإنسانية المعينة. ولهذا كان من الأجدى والأنفع أن ينصبَّ اهتمام الدراسات التاريخية على تحليل الأحداث التاريخية لا بوصفها صادقة أو زائفة، بل بوصفها أحداثاً دالة وقابلة للاعتقاد في أفق انتظار الذاكرة الجماعية للجماعات الثقافية».

شارك في سلسلة «مرايا»... «إعادة كتاب التاريخ»، في جزئها الأول، إضافة إلى نادر كاظم، الباحثة العراقية خالدة حامد بترجمة مقالة مطوَّلة لروجر كموبل، وحملت عنوان «قتل التاريخ... لماذا تُعدُّ النسبية على خطأ»؟ الأكاديمي عبدالأمير الليث ترْجم مقدمة كتاب «الأمة والسرْد» لهومي بابا، والأكاديمية نهى بيومي بورقة «إعادة كتابة التاريخ من منظور النساء: نحو تجديد كتابة التاريخ»، وجعفر الجمري بترجمة مقالة ديفيد كوسالكا «المجاز التاريخي والذاكرة الجماعية في أميركا»، والكاتب والباحث اللبناني نخلة وهبة بورقة حملت عنوان «هل المطلوب إعادة التاريخ؟ الجواب: لا»، والكاتب والأكاديمي البحريني عبدالهادي خلف بورقة «في التاريخ وإعادة كتابته/ قراءته»، والكاتب والناقد كمال الذيب بورقة «منمنمة تاريخية... كيف نتجاوز وعينا التاريخي المُزيَّف» ومحمد أركون بورقة «نحو تاريخ تضامني بين الشعوب».





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً