أن تكون على سفر، فذلك يعني أن تكون أمام مجهول، أن تكون أمام نفسك، وقلبك.
تخرج من موطنك طوعاً لتحمله في قلبك ويكون معك شاهداً على كل حنين إليه يغمرك به شعورك بالبعد عنه تارة والقرب منه لأنه بداخلك تارة أخرى.
في السفر مع مجموعات من نفس جنسيتك، تصادف أشخاصاً تتعرف إليهم للمرة الأولى، وتجد نفسك لا شعورياً ترتبط بمن يشبهك. يغدو قلبك موطنهم، وتغدو قلوبهم موطنك الذي تفتقد.
يكونون لك أهلا وأصحابا في فترة وجيزة، تجدهم عوناً لك، يفتحون قلوبهم ويجندون أرواحهم وكل ما يملكون لتكونوا أسرة واحدة لا يجمعها إلا الحب والإيثار والرغبة في أن تنقضي فترة السفر وقد ظفروا كما ظفرت بأهل وأصحاب جدد.
أقول قولي هذا عن تجربة؛ فأنا كثيرة الأسفار وفي كل مرة تقريبا أسافر وحيدة للمشاركة في مهرجان شعري أو مؤتمر، وأجد في السفر رفقة تكون لي بمثابة الأهل، وفي رحلتي السياحية الحالية مع طفليّ صادفتُ أسرة كانت فيها الزوجة أختا لي والزوج أخا، كانا معنا في كل خطواتنا، وقد وقفا إلى جانبي في وعكتي الصحية كأخين واكثر، حتى أني لم أشعر بالغربة أو الوحدة، ولم يهدأ لهما بال إلا بعد شفائي.
الصحبة الحسنة هي إحدى فوائد السفر التي ذكرها الإمام علي عليه السلام في إحدى القصائد المنسوبة إليه حين قال:
تَفَرُّجُ هَـمٍّ، واكتِسَـابُ مَعِيْشَـةٍ
وَعِلْمٌ، وآدابٌ، وصُحْبَـةُ مَاجِـدِ
وفي السفر يحاول كثيرون أن يكونوا لغيرهم عوناً وحصناً ورحمة، فتجدهم ينذرون أنفسهم لغيرهم ويشعرون بالسعادة الغامرة وهم يلبون حاجاتهم ويعينونهم.
وفيما يحاول هؤلاء أن يكونوا بطبيعتهم الجميلة، يسعى بعض الاشخاص أيضاً لإظهار الجانب السيئ الذي يسبب مشكلات لهم ولمن يتعاملون معهم، وخصوصا في السفر الذي يحتاج فيه المرء لكثير من الأريحية في التعامل والتعاون كي تنقضي أيام غربته عن وطنه وأهله بخير وسلام.
يحكى أن أحد الأشخاص سافر في تجارة مع بعض زملائه، وفي السفر أصيب هذا الرجل بعارضٍ صحيٍ ألزمه مكانه، لكن زملاءه أصروا على الوقوف إلى جانبه حتى تنقضي هذه الأزمة فتخلفوا عن جماعتهم ورافقوه حتى تماثل للشفاء، وأثناء رحلتهم للالتحاق بالجماعة التي سبقتهم بثلاثة أيام، مرض رجل آخر فقرر الزملاء فعل ذات الأمر معه، إلا من ساعدوه من قبل، قرر المضي كي يصل إلى الجماعة. وبالفعل تركهم ومضى، وبعد يومين تابع التجّار رحلتهم لكنهم وجدوا زميلهم ملقىً على قارعة الطريق وقد سلبه اللصوص كل ما يملك، بعدما أشبعوه ضرباً. ولو أن هذا الرجل تعامل مع زملائه بنفس الحب الذي تعاملوا به معه لما خسر ماله ولا صحته. هكذا يكون على المرء أن يتعامل مع غيره كما يحب أن يعاملوه في حله وترحاله.
إقرأ أيضا لـ "سوسن دهنيم"العدد 4893 - الجمعة 29 يناير 2016م الموافق 19 ربيع الثاني 1437هـ