غداة تصريحه العنصري، أدونالد ترامب الأوفر حظاً حتى الآن لترشيحه من حزبه الجمهوري للانتخابات الرئاسية الأميركية، نقول غداة تصريحه بمنع مليار ونصف المليار مسلم من دخول بلاده، صادف أن أعلنت السلطات المحلية لمدينة كاليه الفرنسية حالة التأهب لحماية لوحة جدارية للفنان البريطاني بانكسي، تمثل الراحل العبقري ستيف جوبز مؤسس شركة «أبل» على هيئة أحد اللاجئين البؤساء، وذلك على مخيم للاجئين في المدينة نفسها. وهذا الفنان البريطاني كان قد صرّح، كما يبدو رداً على ترامب: «أن شركة أبل ما كان لها أن تولد لو لم تسمح السلطات الأميركية لابن حمص السورية بدخول بلادها». ولم يكن ستيف جوبز ذو الأصل العربي السوري إلا واحداً من مئات أو آلاف العرب والمسلمين النوابغ الذين اضطرتهم ظروفهم المعيشية أو السياسية للهجرة إلى الولايات المتحدة، كأحمد زويل الحاصل على «نوبل» على سبيل المثال لا الحصر. أكثر من ذلك فإن الرئيس أوباما نفسه في خطاب له في 11 مايو/ أيار 2012 على الحدود مع المكسيك أقر بالحرف الواحد «أن الولايات المتحدة أساساً وطن المهاجرين». أما من نبغوا وأظهروا مواهب فذة من المهاجرين إلى كل الدول الغربية المتقدمة، بلا استثناء، فحدث ولا حرج.
ما معنى ذلك؟ معنى ذلك بكل بساطة أنه من الاستحالة بمكان فصل تلاقح العقول والحضارات البشرية في عصرنا الراهن حتى في ظل التقدم الهائل المتسارع الذي تحرزه الحضارة الغربية، إذ لا يستطيع أحد أن يجزم أن كل اختراع أو ابتكار اخترعه أو ابتكره مهاجر من العالم الثالث كان سيبتكره أو يخترعه مواطن «أصيل» من البلد الذي هاجر إليه؟ وحتى إذا ما افترضنا بأنه كان سيتوصل إليه، فهل كان سيتوصل إليه في نفس التوقيت الذي توصل إليه المهاجر، وبخاصة أن كل اختراع عظيم جديد تقوم عليه سلسلة من الاختراعات كما كان الأمر باكتشاف الكهرباء والآلة المصورة، فلولاهما لما جاءت سلسلة الاختراعات الطويلة المتتالية القائمة على اكتشافهما منذ قرن ونيف حتى يومنا هذا؟
وإذا كان «ترامب» لا يعلم بأن تصريحه يسئ ليس إلى قسم كبير من عباقرة ونوابغ بلاده من ذوي الأصول العربية والإسلامية فحسب، بل وإلى الملايين منهم الذين باتوا يشكلون جزءاً لا يتجزأ من نسيج شعبه، فهل علِم أن تمثال الحرية الذي يُعد أهم معلم فني سياسي في بلاده يرمز للديمقراطية وقيم الحرية والمساواة بين البشر، وهي القيم التي ما انفكت بلاده تتباهى بها أمام العالم إنما اُستوحيت فكرته من داخل مصر البلد العربي الإسلامي، وهذا ما أعترف به أخيراً معهد «سميشونيان» الذي يدير معظم المتاحف الأميركية بأن المهندس الفرنسي فريدريك أوغست بارتولدي استلهم فكرة تصميم تمثال الحرية في الأصل من شكل فلاحة عربية مصرية إثر زيارة له لمصر عشية الاستعدادات لفتح قناة السويس العام 1869 وانبهاره حينها بتماثيل معبد أبي سمبل، ووقتذاك أعلنت الحكومة المصرية عن مسابقة لتشييد تمثال يُنصب على مدخل القناة بمدينة بور سعيد، فتقدم بارتولدي بتصميمه العبقري على شكل إمرأة محجبة مصرية تحمل جرة ويُنقش عليه «مصر منارة آسيا»، لكن الخديوي إسماعيل باشا صدم الفنان الفرنسي المهندس بارتولدي برفض مشروعه لكلفته العالية، ولاعتزاز هذا الأخير بمشروعه، تقدم به لحكومة بلاده، بعدما أدخل عليه بعض التعديلات الطفيفة، لتهديه إلى الولايات المتحدة في الذكرى المئوية لثورتها العام 1886، فجاء التمثال الجديد ذو الـ 125 طناً لفتاة شابة تحمل مشعلاً (بدلاً من جرة الفلاحة المصرية) يرمز للقيم الليبرالية التي تشع على قارات العالم من أميركا، وتحت أحد قدميها قيود الاستبداد التي تخلصت منها.
ولم تكن ضحالة مؤيديه الجمهوريين بأفضل حال منه، فحسب الكاتب الصحافي في «واشنطن بوست» روبرت سامويلسون فإن نصف مؤيديه من خريجي الثانوية أو لم يكملوا تعليمهم الثانوي و19 في المئة فقط من مؤيديه هم خريجو جامعات.
وإذا كان ترامب قد أثبت بامتياز ضحالة ثقافته السياسية العامة في الإجابة على أبسط المعلومات السياسية الدولية في عدة مؤتمرات صحافية ومقابلات تلفزيونية (الحياة ، 8 سبتمبر/ أيلول 2016) فليس من المستغرب أن يجهل قصة تصميم واحد من أهم معالم بلاده الفنية السياسية، لكن الأغرب من ذلك والأكثر عاراً أن يمر تصريحه العنصري بحق العرب المناقض لما يرمز إليه تمثال الحرية من قيم ليبرالية مرور الكرام على الحكومات العربية دون أن ينبس أحد بأي استنكار ولو خجول، فكأنهم أستخفوا بفرص وصوله إلى البيت الأبيض، في حين كم من الرؤساء والأحزاب اليمينية العنصرية في الدول الغربية الديمقراطية وصلت إلى السلطة منفردة، أو بالائتلاف مع أحزاب أخرى، وهي تحمل شعارات عنصرية لا تقل عنصريةً عن تصريح «ترامب»؟!
إقرأ أيضا لـ "رضي السماك"العدد 4890 - الثلثاء 26 يناير 2016م الموافق 16 ربيع الثاني 1437هـ