هي ليست وليدة اليوم أو الليلة، ولا ربيبة الظرف العالميّ الرّاهن المشترك، وإنّما هي سليلة التاريخ العربي الإسلامي العريق، ونتيجة تعاون قديم متجدّد في شتى الميادين: نعم، تلك هي العلاقات البحرينية التونسيّة. بقدر ما باعدت الجغرافيا بين البلدين، قارب التاريخ بين الشعبين التونسي والبحرينيّ، ووحّد الحاضرُ بين تطلعاتهما في مستقبل زاهر مشرق. ولمزيد تعزيز هذه العلاقة تأتي الزيارة التاريخية للرئيس التونسي الباجي قائد السبسي رئيس الجمهورية التونسية استجابة للدعوة الرسمية من أخيه الملك حمد بن عيسى آل خليفة ملك البحرين لزيارة المملكة يومي الأربعاء والخميس 27 و28 يناير/ كانون الثاني 2016م.
تأتي هذه الزيارة، وفي رصيد العلاقات بين البلدين إرث عظيم، ازداد متانة وقوّة خاصّة بعد الانتقال الديمقراطي السلميّ في تونس؛ حيث باركت مملكة البحرين قيادة وشعباً هذا الإنجاز لتونس، وأعربت عن تضامنها مع الشعب التونسي. وإن أنسى في هذا السياق، فلن أنسى، وأنا المقيم في هذه الأرض الطيّب أهلها وقادتها، بيان وزارة الخارجية البحرينية في يناير 2011، حيث عبّرت آنذاك عن «طمأنتها للجالية التونسية في البحرين وأنهم - وبناء على توجيهات عاهل البلاد - يحظون برعاية مملكة البحرين وهم بين ظهراني إخوانهم ولن ينقصهم شيء. وأن البحرين ستعمل جاهدة لتذليل أي عقبات قد تعترض الإخوة التونسيين المقيمين لديها».
كلمات من ذهب ردّت عليها الجالية التونسية بسلوك من ذهب: مزيد من التفاني والإخلاص في العمل، وعدم التدخّل في الشئون الداخلية للمملكة ما زاد في تقدير أهل البحرين للجالية التونسية، وهو أيضاً ما فتح الباب على مصراعيه بين البلدين لمزيد تعزيز التعاون وتفعيل الاتفاقيات، وليس آخرها موافقة مجلس الوزراء يوم الثلثاء الماضي على مذكّرة تفاهم حول التعاون الثنائي في المجال الأمني بين حكومة مملكة البحرين وحكومة الجمهورية التونسية وذلك بعد مراجعتها من الناحية القانونية في اللجنة الوزارية للشئون القانونية بمملكة البحرين. أقول ليس آخرها لأنّ الزيارة التي يؤديها الرئيس التونسي الباجي قايد السبسيّ ينتظر منها الكثير في إطار التعاون بين البلدين وخاصّة إعادة الروح في المشاريع الاقتصادية الكبرى ولا سيما، مشروع مرفأ تونس المالي، الذي ينشئه بيت التمويل الخليجي، على غرار مرفأ البحرين المالي، والذي سوف يكون، بعد إنجازه إن شاء الله، الأول من نوعه في إفريقيا.
صحيح أنّ زيارة الرئيس التونسي قد سبقتها بعض الاحتجاجات المطالبة بالتشغيل في تونس، غير أنّ هذه المطالبات قد تعاملت معها الإرادة السياسية التونسيّة بحكمة في حدود إمكانياتها، وسعت إلى احتوائها رغم محاولات بعض المندسين في هذه الاحتجاجات إرباكَ المشهد الأمني العام في تونس. إلا أنّ المحتجّين الحقيقيّين أعربوا عن سلميّة تحرّكاتهم، وتبرّؤوا من بعض المندسين الذين أظهروا تونس على أعتاب ثورة جديدة. وها هي الأيام تؤكد بطلان ذلك؛ فالأمن عاد تدريجياً وتمّ إلقاء القبض على المخربين، ولا يزال بعض المحتجين يمارسون حقوقهم التي كفلها لهم الدستور التونسي الجديد: يعتصمون بكل سلمية وحضاريّة من أجل إنفاذ تلك الوعود.
إنّ التكريم الذي حظيت بها التجربة التونسية أواخر العام 2015 من خلال حصول الرباعي الراعي للحوار الوطني بتونس على جائزة نوبل للسلام جعل منها مثالاً يُحتذى في تغليب المصلحة الوطنية على المصالح الحزبيّة الضيقة وذلك من خلال التشبّث بمبدأ التوافق، وهو ما ساعد البلاد على الخروج من مأزق سياسي خطير مرّت به سنتَيْ 2012 و2013، توافقٌ سرّع في كتابة دستور وإجراء انتخابات تشريعية ورئاسية بوّأت تونس المركز الأول عربيّاً في الديمقراطية.
هذا المناخ السياسي والقانونيّ الجديد الذي تتميز به تونس اليوم، فضلاً عن عديد التسهيلات والمميزات الأخرى جعلها جاذبة للمستثمرين العرب والأجانب، وهو ما تأمل الخارجية التونسية في تدعيمه، من أجل زيادة حجم الاستثمارات والتبادلات التجارية التونسية العربية والخليجية خصوصاً. ولعلّ الزيارات المتبادلة والمتكررة للوفود التجارية بين تونس ودول الخليج العربي، ولاسيما مملكة البحرين في الآونة الأخيرة، سواء في القطاع الخاص أو العموميّ، تؤكد تطلّعات البلدين الشقيقيْن إلى دفع عجلة النموّ الاقتصادي في البلدين.
إنّ السياسة الخارجيّة لتونس لتضع ضمن أولوياتها، بعد نجاح انتقالها الديمقراطي السلميّ، تفعيل وتعميق علاقاتها مع أشقائها العرب سواء في المغرب العربي أو في الخليج العربي. وإنّ اللقاء التونسيّ البحرينيّ على أعلى هرم للسلطة من خلال هذه الزيارة التاريخية لرئيس الجمهورية التونسية تؤكّد أنّ جناحي الأمّة أو طرفيها مشرقاً ومغرباً إنّما يتحرّكان في تناغم بما فيه مصلحة شعبيهما وبما يدعم مستوى العلاقات الأخويّة بين الشعبين الشقيقين في كلّ من درة الخليج (البحرين) ودرة المتوسّط (تونس).
نعم إنّ ما يجمع بين البلدين أكثر بكثير مما يُباعد بينهما: ماض عريق تتالت عليه حضارات منذ آلاف السنين، حاضر حريص على الذهاب بعيداً في معركة التنمية الشاملة التي يخوضها البَلَدان بقيادة حكيمة من أجل تحقيق طموحات الشعبين الشقيقين، ومستقبل مشرق ترنو إليه الأجيال القادمة يكون فيه الإنسان في كل من تونس والبحرين هو رأس المال الحقيقي من أجل تنمية مستدامة.
إقرأ أيضا لـ "سليم مصطفى بودبوس"العدد 4890 - الثلثاء 26 يناير 2016م الموافق 16 ربيع الثاني 1437هـ
لتحي العلاقات التونسية البحرينية