عندما ترك الشيخ عبدالحسين الحلي (ت 1956) وطنه العراق مرغماً، وجاء البحرين ليشغل منصباً قضائياً كان ينتظره طويلاً، أنشد قصيدة عنوانها «مغنية الحي» هي من أطرف ما كتبه هذا الفقيه الشاعر، كان مما جاء فيها:
ترحّل لتدرك ما تطلبُ
إذا عزّ في حلّك المطلبُ
صل الجدب بالجدب حتى يبين
لمرتاده المرتع المخصبُ
تغرّب، وغنِّ، فإني رأيت
مغنية الحي، لا تطربُ
وهذه شكوى يكررها غالباً أصحاب المواهب الوفيرة وذوو الطموح العالي، وقلّ ما يترك الموهوبون أوطانهم مختارين مهما عاكستهم الظروف وقست عليهم الأوضاع، والهجرة عندما تحدث في حياة هؤلاء فهناك حتماً بواعث قاهرة جداً دفعتهم لهذا الخيار المكلف.
ولاحظتُ أن شعر الاغتراب عند البحرينيين كثير وفير، وهذا يُنبئ بأن ظاهرة الهجرة كانت كبيرة ًبحيث أن أدباً غزيراً أُنشد في موضوعها، حدث ذلك عندما كان الشعر ميداناً معرفياً لبث الشكوى وإرسال الآهات ووسيلة فضلى للتخاطب ليس عند مثقفي وأدباء ذلك الزمان فحسب، بل بما يمثله الشعر من قيمة جمالية وإبداعية قادرة على اختراق المسافات البعيدة للزمن.
الشاعر «ابن يتيم»، السيد خليل آل السيد عبدالرؤوف الجدِّحفصيّ (ت 1892م/ 1310هـ)، أحد هؤلاء الذي سجلوا مشاعرهم بلغة شعرية راقية، فقد قضى هذا الشاعر عمره في حلٍّ وترحالٍ، فهو لا يلبث أن يستقرّ في موطنه حتى يعاودَّ السفر، والذي يلوح من شعره أنّه هاجر من بلده البحرين وأقام في العراق بكربلاء مجاوراً قبر الحسين بن عليّ، فهو أحقّ عنده بالمجاورة؛ لعقيدة تسكنه بأن العراق أولى بالسكن من مسقط رأسه، فهو لا يستوحش فيها ولا يشعر بالغربة بين أرجائها، بل حتى لا ينتابه الحنين لوطنه، يقول في ذلك:
ما فرقةُ البحرينِ تُوحشُني وإنْ
كانت صفاءً عندَها أورادي
لم أجفها بُغضاً وكيف وإنّها
كانت لرأسي مسقطاً وبلادي
لكنه يضيف بسرعة:
لكنّني مُستبدلٌ عن ربعها
ومكانتي فيها وفخري البادي
والنّزْرُ إنْ أنا بِعْتُ كُلَّ عزيزةٍ
بجوارِ أعلامِ الهُدى أجدادي
وهناك أبيات أخرى قالها في هذا المعنى، ومع ذلك، لا يلبثُ حتّى يعود إلى موطنه، رغم عدم شوقه إليها؛ لسبب يعترف به في قوله:
إلى البحرينِ أصبو لا لحبٍّ
لها منيّ ولكنْ لاكتسابِ
ولولا أنّ رزقيْ كان فيها
كرِهتُ لها الذّهابَ مع الإيابِ
ولقد لخّص «ابن يتيم»، وهذه شهرته، أسباب هجرته من البحرين في قصيدة نختار منها هذه الأبيات:
لحا اللهُ هاتيكَ البلادَ فأهلُها
لما كانَ مِنْ سوءٍ بها كُلُّهمْ مَرْضى
وما مِنْ قرارٍ في النّهارِ لمنْ بها
وفي الليلِ لم تألفْ جفونُهُمُ الغمضا
فلم يبقَ فيها من صديقٍ ولا أخٍ
ولا صاحبٍ إلا وأبدى لك البُغضا
وما حلّها ذو الأصل إلا وأرضُها
لهُ فَرَشتْ سوءَ القضا والرّدى أرضا
وتُغتابُ مهما غِبْتَ عنها ومَنْ بها
إذا حلفوا أولوكَ في حَلْفِهم نَقْضا
يُكفِّرُ بعضاً منهُمُ البعضُ ويلَهُمْ
ويلعنُ طولَ الدّهرِ بعضُهُمُ بعضا
ولابد هنا، ما دمنا نتحدث عن هذا الشاعر المغمور، أن ننوه بالجهد العلمي الجميل للشيخ زكريّا العويناتيّ في بحثه للماجستير حيث درس وحقق فيه ديوان السيد الجدحفصي هذا، وقدّمه عام 2004م لكليّة الآداب والعلوم الإنسانيّة بجامعة القدّيس يوسُف.
وخلافاً لهذا الموقف الممعن في الاحتجاج، يغلب «الحنين» على شعر أسلافنا أدباء ذلك العصر، وفي «الكشكول»، يطالعنا البحراني، يوسف العصفور (ت 1773م/ 1186هـ) بخطاب عاطفي ، أرسله لأولاده وأسرته بعد خروجه من البحرين، بعد أن مزقتها الحرب، وأوقعتها في دوامة الفوضى، وقد أطلق فيه عنان قلمه وأودعه مشاعره الدافئة، جاء فيه:
قلبي من أجل فراقكم موجوعُ
هل لي إلى ذاك الوصال رجوعُ
رقوا لصبّ زينت أجفانه
ببكائها طول المدى ينبوعُ
وحياتكم من بعدكم ما لذّ لى
عيش وإني بالخيال قنوعُ
كيف التصبر والحشا قد ضمّه
ماء ونار والهوى مجموعُ
ثم يقول: «وإني وحق العلي العظيم، وإنه لقسم لو تعلمون عظيم، كلما جاش ذكركم في خاطري وتردد بين صدري وحناجري تنغص علي لذيذ طعامي وشرابي، وترادف علي همي واكتئابي، وتصاعدت لذلك زفراتي وعلا نحيبي وتضاعفت حسراتي وهجرتي قراباتي:
تباعدتم لا أبعد الله داركم
وأوحشتم لا أوحش الله منكم
تباعدتم عن ناظري وسكنتم
ضميري وحليتم به وأقمتم
فلا عين إلا مثل عيني قريحة
ولا قلب إلا مثل قلبي متيم
وحياة الشيخ يوسف، كما عكستها نصوصه المودعه في تراثه العلمي، تقدم نموذجاً صالحاً، قابل للتعميم إلى نحو بعيد، لما كان عليه أغلب الأسر البحرينية التي مزقت شملها الحروب وعانت قسوة الشتات ومصاعب الهجرة في مدى جغرافي رحب يشهد عليه، إلى اليوم، توزع آل عصفور في أكثر من بلد.
يقول الشيخ يوسف في رسالته، الآنفة لأهله: «وها أنا وحقكم حليف الوجد والأسى مشطّر الجسم بين العل وعسى، قد ترادفت علي لعظم الهموم والأمراض وتناوشني لما أنا فيه يد الأمراض حتى صرت في ذلك مدة دنيف الفساد، قلق الفؤاد عديم الرقاد، ولقد أشغل نار الهم والتزفار وأشغل الفكر وأطال التذكار، ذكر الأولاد وما هم فيه من التضرر والانكسار، والتضرر الذي لا يُرجى له إنجاز إلا بتوفيق من بيده أزمة الأمور والأقضية والأقدار لجمع الشمل بهم في تلك الديار:
أحبتنا الغادون لا شتّ شملكم
ولا ذقتم من لوعة البين ماعندي
تحملتم لي كلكم شوق واحد
وحملتموني شوق أجمعكم وحدي
إلى أن يقول:وعسى الله أيامي بكم يا أحبتي
وحيا زماناً كنتم فيه جيراني
لقد كان لي بالقرب منكم بقية
رحلتم فأفنى البعد مني بقيتي
أنوح على مافاتني من وصالكم
وتجري عليكم بالمدامع عبرتي
إلى هنا، يتعين أن نشير إلى أن نصوص المحنة، وأدب الاغتراب بنوعيه الشعري والنثري، يُعبّر عن جانب من جوانب التراث العلمي لأهل البحرين، وهو من الثراء والكثرة ما يرشحه بامتياز ليكون مادة لدراسة خصائصه الفنية والأدبية، وإعادة تقديمه بقراءة جديدة لأبعاده التاريخية التي قد تكون خافية علينا اليوم.
إقرأ أيضا لـ "وسام السبع"العدد 4889 - الإثنين 25 يناير 2016م الموافق 15 ربيع الثاني 1437هـ
رحم الله والديك
نقلت وكتبت وحللت وسردت ووثقت فأبدعت
الماضي والحاضر وربما المستقبل
نعم من الاجداد لجيل اليوم عاشوا قبلنا في الغربه وجيل اليوم يعانون ما عاناه الاجداد .. كل املنا ان لا يكون الجيل القادم بمثل المعاناه
تسلم استاذ على هذا الموضوع .. ولا زالت البحرين تعاني من غربة ابنائها جيلاً بعد جيل بسبب ...
رووووعه
كلمات روعه