العدد 4888 - الأحد 24 يناير 2016م الموافق 14 ربيع الثاني 1437هـ

رواية الأرملة لفيونا بارتون... القصص التي لا تُترك مهما كانت باردة

في محنة الهجرة والاغتصاب... وسر لحظات «وجدْتُها»...

كارولين بروذرز  - فيونا بارتون
كارولين بروذرز - فيونا بارتون

في الاشتغال على روايات الجريمة، ثمة لازمة تُرهق القارئ تتحدَّد في جثة/ جثث. بعدها يتم الانشغال بالتفاصيل المُرهقة أيضاً، بحسب تعبير سوزي فياين المحررة الأدبية في صحيفة «الإندبندنت» البريطانية، في مراجعتها لرواية «الأرملة» للروائية فيونا بارتون، يوم الأحد الماضي (17 يناير/ كانون الثاني 2016). كثير من تلك التفاصيل لا تتكئ على الحبْكة المنطقية في ربط الأحداث، وإدخال التفاصيل الصغيرة ضمن بنْية الحبكة خصوصاً، والعمل الروائي عموماً.

بعض تلك التفاصيل يتم تمطيطها في إجراءات البحث عن القاتل. إجراءات التحقيق التي تفتقد في كثير منها إلى تلك المنطقية التي أشرنا إليها.

حشْد الرواية بالجثث لا يصنع منها عملاً خارقاً أو باعثاً على التسلية. توظيف الجثث في أول الأمر ونهايته، من المفترض أن يكون تسليط ضوء على النوازع البشرية التي لا تريد أن تعتاد على الحياة في جانبها المستقر.

روايات الجريمة تضم سيناريوهات مثيرة للسخرية؛ حيث المُهمل بالحصول على لا شيء ضمن مجموعة متنوِّعة من الطرق تبدو في رواجها خارجة على المألوف في أسلوبها. الاتجاه الجديد يذهب نحو التأثير الأكثر واقعية للجرائم، بالتركيز على تفصيلات التحقيق والجوانب المُملِّة والمُحبطة في كثير من الأحيان، تلك التي تتعلق بنتائج الكشف عنها. للمرة الأولى تتصدَّى الروائية فيونا بارتون لهذا النوع من الكتابة بحزم اقتحاماً له بجدارة.

في عدد «الإندبندنت» أيضاً يوم الأحد (17 يناير 2016)، مراجعات مختصرة لبعض الإصدارات الجديدة، وتلك التي تمت إعادة طباعتها، من بين الكتب الجديدة، كتاب كل من: جون كونيوس ومارك بيمن، ويبحثان فيه عنصر لحظة الاكتشاف، تلك الصرخة التي تعبِّر عن لذة الكشف: «وجدْتُها»، وفي صيغة أخرى: آهَا! فيه وقوف على التجربة الإنسانية المشتركة في الفهم المفاجئ لمشكلة غير واضحة أو مفهومة سابقاً، وما يصفه بعض الباحثين بأنه ميِّزة من ميِّزات الذاكرة.

في المراجعات أيضاً، تناول لأوديسة الهجرة، واغتصاب يتعرَّض له شقيقان، ومساحة من التلاعب بعواطفنا، أمام مأساة بذلك الحجم.

الأرملة والمُخْبر والمراسل

عِوضاً عن حَشْد الجُثث في الرواية، تلجأ فيونا بارتون إلى حالة واحدة تظل مُروِّعة بما فيه الكفاية. اختفى طفل من حديقة منزلها الأمامية، ولم يقدِ البحث عنه إلى نتائج مُثمرة. في تدرُّج يقودنا إليه السرْد، وسْط كل إجراءات التحقيق من جانب الشرطة، يُصبح غلين تايلور، هو المشتبه الرئيسي في القضية.

لكن الكتاب يُفتتح بموت غلين جرَّاء حادث؛ فيما القضية لم يُحل لغزها بعد. عنون «الأرملة»، يأخذنا إلى جان تايلور بشكل خاص، وضمن مداخل تجد استمراريتها. إنها مراسلة الجريمة التي لا تتوقف. تُبدي كيت واترز تعاطفاً أنثوياً هو بمثابة طُعْم، في استماتة تبدو لا رحمة فيها من أجل الحصول على القصَّة، مبتهجة بقدرتها على اجتراح الحِيَل كي تنتصر على منافسين لها في هذا الحقل. ولكن من الذي يتلاعب بمن؟ الصراع على السلطة لم ينتهِ بشكل مُروِّع، بالموت المُشين لغلين.

تركِّز بارتون في مفاصل كثيرة من الرواية على العلاقة التكافلية، والتي هي غير مُريحة في كثير من الأحيان بين الشرطة ووسائل الإعلام، والضحايا أو شهود الجريمة. وفي حين أن أمَّ بيلا، تُوقع الرعبَ في القلوب باهتمام تناله من الصحف، تُدرك بسرعة قيمتها الحقيقية والمحورية في الحدث. كل ذلك بسبب ما تتمتع به من مهارة في التعامل مع وسائل الإعلام، جعلها مثاراً للإعجاب، بقدْر ما هي هشَّة ومقيتة. هنالك مسألة تتعلَّق بالسبب الكامن وراء ترك بيلا الصغيرة وحدها لفترة طويلة في المقام الأول.

كل قِسْم من رواية «الأرملة» هو عنوان بحدِّ ذاته: «المخبر» «المراسل» وهلم جرا، وفقاً لكل مشْهد يجري فحْصه. جان هي الشخصية الأولى التي تأخذ دورها في السرْد، على رغم كشفها لعملية إنقاذ زوجها الذي توفي، يوصلنا ذلك إلى معنى ونتيجة: «لا مزيد من تُرَّهاته»، وهي عبارة تقشعرُّ لها الأبدان تلك التي تتركها بارتون معلَّقة وبذكاء ملحوظ. في ضوء ذلك، هل تبدو جان مُتواطئة، بإكراه ما أو ربما تجاهل. عن قصد أو غير ذلك؟ يلي ذلك: هل غلين بالتالي مذنبة أيضاً؟

العلاقة بين كيت والمُخبر بوب سباركس يتم توجيهها وتصويرها بشكل ملفت: إنهما في الجانب نفسه، ولكنهما ليسا مع الفريق نفسه. يتم ضبط الدوافع والمسارات بشكل منهجي جيد في الرواية، فيما المشاهد الصحافية تبدو حقيقية جداً، ولدى بارتون عقود من الخبرة والدراية في هذا المجال.

تقدِّم لنا فيونا بارتون بذكاء الكيفية التي تتواءم فيها التفاصيل مع كل فرد في عملية التحقيق الطويلة، من دون أن يقلِّل ذلك من حال التوتر التي تُشِيعها في العمل. رواية «الأرملة» هي تكريم لأولئك المهنيين الذين لا يتركون قصة أو حالة تمضي هكذا من دون التفات، مهما كانت باردة، ومهما بدت غير ذات مغزى.

حشْد من الأغلفة

ليزلي ماكدويل، تراجع في «الإندبندنت» وبتاريخ 17 يناير الجاري، ذلك الحشْد أو الحشْر من الأغلفة. لا يذهب العنوان في مباشرته، بالسرْد الذي تكتظ به. هي أغلفة العلاقات المضطربة والمتقلِّبة. العلاقات التي يتمخَّض عنها تهديد لحيوات واستقرار بشر وأمكنة أيضاً.

أي شخص قُدِّر له أن يقرأ حياة هربرت جورج ويلز، سيكون على دراية باسم مورا بدبيرغ، المرأة الأوكرانية المولد، والتي كانت واحدة من عدَّة عشيقات، والوحيدة ربما التي استطاعت أن تنجو بنفسها. هذا يضعنا أيضاً أمام حقيقة أن كثيرين قد لا يعرفون الكثير عنها. يعود ذلك جزئياً، إلى أن واضع هذه السيرة لا يرسِّخ ظهورها في كثير من الأحيان، ويغلّف حياتها بإطار من السرية.

عادة ما يكون هنالك سبب وجيه لهذا النوع من السرية، ولا نحتاج إلى كثير من الجهد كي نفترض أن امرأة أرستقراطية نجت من نيْر الثورة الروسية قد يكون لديها عدد، ولو كان قليلاً، من العلاقات والاتصالات في جهاز المخابرات السرية. مورا التي ولدت باسم ماريا زاكريفيزكي تزوجت وهي في سن الثامنة عشرة من جون بينكيندورف؛ إلا أن ذلك الزواج لم يدم طويلاً.

أنجبت طفلان ولكنها سرعان ما تورَّطت في علاقات أخرى، وخصوصاً مع المغامر الأسكتلندي والممثل الحكومي روبرت بروس لوكهارت، والذي قد يكون هو الحب الأكبر في حياتها. أثمرت تلك العلاقة عن حمل ولكنها لجأت إلى الإجهاض بعد وقت قصير من سجْنها. كاتب سيرتها الذاتية يدَّعي أنها تنتمي إلى «شيكا» (الشرطة السرية)، وربما كانت تقوم بأدوار تجسُّس على لوكهارت.

من الصعب تصوير شخص يُراد له أن يكون أكبر من الحياة، ومن النوعية التي لا تهدأ وغير منطوية؛ إلا أن تناقضاً يكمن هناك في قلب مورا بدبيرغ، بإمكانية كشفه عن أكثر مما تم بكثير، من ذلك: أن مثل هذه المرأة المهمة للغاية، وذات المكانة الاجتماعية، يمكن لها أن تكون أيضاً جاسوسة ناجحة، وهي المهمة التي تتطلَّب الكثير من السرية والخداع والتحفُّظ.

كيفية تمكَّن بدبيرغ من التوفيق بين تلك الجوانب المتناقضة لم تتحقق بوضوح حقاً، من بينها أحداث حياتها الرائعة، وعلاقتها الطويلة مع مكسيم غوركي، زواجها الثاني الذي كان منسجماً، عملها مع ستالين، وتعاونها مع أمثال غي بورجيس.

المناطق الخلفية

تسْرد كارولين براذرز في كتابها «المناطق الخلفية»، والذي صدر للمرة الأولى في العام 2012، قصة شقيقين أفغانيين صبييْن يُحاولان شقَّ طريقهما المحفوفة بالمخاطر إلى المملكة المتحدة، باعتبارهما لاجئيْن. الكتاب تمَّت إعادة إصداره مع مقابلة جديدة أجرتها المؤلفة التي اكتسبت خبرتها من عملها كمراسلة خارجية؛ ما ساعدها على تشكيل أسس هذه الرواية بوضوح.

ربما نتيجة لذلك، يبدو رتْم العمل صحافياً جداً، مع القفزات التي تطرأ على شخصيتي الأخوين، وفي أوقات مختلفة، وقوفاً عند عملية الاغتصاب التي قام بها أحد كبار السن، ولكن تأثير هذا الحدث الكارثي على كل من الصبييْن يبدو سطحياً في كثير من الأحيان.

في الرواية يبدو كل من أريان وكبير، شخصيتين هشَّتين، وكان يمكن لهما أن تكونا معقولتين بشكل نهائي. مع مهارة رائعة، بقدرة الكاتبة على الولوج في تفاصيل صعوبات رحلتهما، تلك التي واجهتهما، واختطافهما من قبل مزارعين يونانيين، وهجوم الشرطة مُستخدمة الغاز المسيل للدموع... الجوع الأبدي، والخطر الدائم من الاستغلال الذي يتعرَّضان له من قبل عصابات عديمة الضمير.

ثمة أوجه تشابه واضحة مع معاناة اللاجئين السوريين، كما تتطرَّق إلى ذلك براذرز في مقابلتها؛ الأمر الذي يبدو معه التلاعب بعواطفنا طفيفاً، في رواية نجد لها الكثير من العذر.

في تأوُّه البُوم

رواية جانيت فريم التجريبية تشكِّل جانباً من بعض الأعمال الاستثنائية التي تم إبداعها من قبل عدد من الكاتبات في خمسينات القرن الماضي، وهي الحقبة نفسها التي شهدت ظهور روائيات رائعات وملفتات من أمثال: دوريس ليسينغ، مورييل سبارك، وإيريس مردوخ، ومن المؤكد أن مكانة فريم تظل ضمن مساراتهن، حتى لو لم تُصدر أياً من الأعمال، إلاَّ هذه الرواية وحدها.

إنها مزيج من القتَامة وروح الدعابة، بامتلائها باليومي والسحري، وهي تحكي قصة عائلة ويذيرز. فريم صوت فريد، وهي متشظية في الأماكن جميعها، بذلك التماسك الذي ظهر بشكل مذهل في الحالات التي تناولتها، تدفع بالأفراد إلى المُضيِّ في مواجهة مصائرهم.

يشار إلى أن جانيت فريم ولدت في دنيدن في الجنوب الشرقي لنيوزلندا في 28 أغسطس/ آب 1924، وتوفيت في 29 يناير 2004. كان ترتيبها الثالث من بين خمسة إخوة من والد أسكتلندي وأم نيوزلندية من الطبقة العاملة. لها عدد من الإصدارات المتنوعة التي تراوحت بين الرواية والقصص القصيرة والشعر والخيال والسيرة ذاتية. من المشاهير الذين استندوا في أعمالهم على التاريخ الشخصي المليء بالدرامية. خضعت لسنوات إلى العلاج النفسي. منحت قصصها القصيرة التي نشرت للمرة الأولى جائزة أدبية وطنية بشكل غير متوقع.

عنصر لحظة الاكتشاف

تأثير «وجدتها!» (المعروفة أيضاً بـ: «آها»! في لحظة اكتشاف) تومئ إلى التجربة الإنسانية المُشتركة للفهم المفاجئ لمشكلة غير مفهومة سابقاً. تصف بعض البحوث تأثير «آها»! (بأنها البصيرة) باعتبارها ميِّزة الذاكرة، ولكن هناك نتائج متضاربة تتعلق بتحديد الموقع من الدماغ المسئول عن حدوث تلك اللحظة، وأنه من الصعب التنبؤ بنوعية الظروف التي يمكن أن تحدث فيها «وجدتها» أو «آها».

في الأساس، يُحاول المؤلفان: جون كونيوس ومارك بيمان، تأسيس ما يجعل الخيال فاعلاً. ما يؤدي إلى تلك اللحظات التي تختمر فيها الفكرة والكشف وما يتبع: «وجدْتُها!» ما يدفع باللحظات تلك عندنا إلى الانطلاق نحو الخيال الذي يقودنا إلى «الحقيقة»، سواء كان ذلك في مجال البحث العلمي أو كتابة الشعر.

يقوم المؤلفان في كتابهما بتحليل المزاج والدوافع والبيئات وكذلك التأثيرات العصبية في أجزاء مختلفة من الدماغ في محاولة للإجابة على هذا السؤال. الأكثر إثارة للدهشة - ربما - أن البعض في حاجة إلى «التحضير للبصيرة»، تلك التي تنشط في عدَّة مناطق من الدماغ، وإلى حدٍّ ما تحسم فكرة حضور عشوائي يتعلَّق بـ «أجود ما نفكِّر به، ونحب أن نتصوره».





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً