كان يجب أن يتجاوز عدد المهاجرين الغرقى الذين تكسرت قواربهم بين الشواطئ الليبية والإيطالية المئات حتى تُصدم روما. حدود الفاجعة قبل هذا الرقم الكارثي لم تكن تتجاوز شواطئ لامبيدوزا ، وفق ما نقلت صحيفة "الحياة" اليوم السبت (23 يناير / كانون الثاني 2016).
هناك يجتر سكان المكان منذ سنين ضراوة الوجع والدموع، في تشبث بنسبة الأرقام التي قد تخفف من وقع الخبر (خمسون غريقاً وليس مئة. إذاً الحال أفضل)، لكن كارثة غرق باخرة ذاك الأحد (19 نيسان/ أبريل 2015 تجاوزت حد المعقول (المتحدثة باسم المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين في إيطاليا كارلوتا سامي تحدثت عن «800 شخص قضوا في الحادث» وهم آتون من سوريا وإرتريا والصومال ومالي وبنغلاديش وغامبيا... أبحروا من طرابلس نحو الجزر الإيطالية قبل أن يقلب لهم القارب ظهر المجن. الحصيلة/ المفجعة التي سيؤكدها المتحدث باسم المنظمة الدولية للهجرة فلافيو دي جياكومو في تقرير لاحق).
كنت في روما عندما وصل خبر هذه الكارثة الإنسانية المفزعة، والذي أقام الدنيا ولم يقعدها... لساعات. ربما ليوم أو لليوم التالي، قبل أن يتحول الجدل إلى ساحة السياسة، وحسبة من عليه أن يدفع كلفة التصدي لموجة الهجرة القادمة من بلد هو بذاته على حافة الهاوية. وقد أرعبتني حينها هذه السرعة في تجاوز خبر موت هؤلاء الغرقى، أو القدرة على هضم الأمر كمن يهضم طعام عسيراً لا غير، سواء في أحاديث الناس أو على مساحة أجهزة الإعلام. بدا لي الأمر مؤشراً إلى خلل أصاب تركيبة الضمير الإنساني)!
ما الذي جرى للإنسانية بعد التيتانيك؟
على عكس ما يحدث مع كوارث البحر في هذا الزمن، كان غرق التيتانيك قد حفر أنهارا من الأسى والفجيعة في قلوب أهل الشمال (لم تكن الأرض معولمة في ذاك الوقت)، كان موت من مات قد سقط على رأس الناس «كجلمود صخر حطه السيل من عل». واستمر وزن هذه الواقعة يتكلكل على ظهر القوم حتى الساعة، باعتبارها كارثة الكوارث في تاريخ النقل البحري العالمي. ولكن... سيكتب على البشرية أن ترى فواجع مشابهة كثيرة في بحار الشمال والجنوب وأنهارهما. وصار خبر الغرق والموت والعواصف يحتل واجهات الصحف ومقدمات نشرات أخبار المساء، ليصبح الخبر الأخير مع نشرة الصباح، قبل أن يقفز إلى خلفية من الصمت اللامبالي بعد عدد قصير من الأيام... لقد تحول خبر الموت غرقاً إلى قصة «نهار وليلة» وكأن الإنسانية قد اكتسبت مناعة «جديدة» ضد الأسى الذي يفرخه موت الملايين في غياهب المحيطات.
في ضوء هذا الوجع الخرافي الوقع، جعل أمين معلوف من باخرة التيتانيك المنكوبة، المؤسسة لتلك الفاجعة الكونية، مسرحاً «لخريطة طريق» روايته العالمية النجاح «سمرقند». لكن هذا التجلي ذاته، والمُعانق آلافاً من التجليات المُشابهة (من موسيقى وأغان وأفلام وروايات... كما لم يحدث مرة مع فاجعة على الأرض)، سرعان ما سيُصدم بواقع كارثة بحرية مُضافة عصفت بالسفينة «إستونيا» نهايات القرن الماضي في بحر البلطيق (في 28 أيلول/ سبتمبر 1994) والتي ابتلعها اليم في طريقها من العاصمة الأستونية تالين إلى ستوكهولم، مخلفة وراءها 852 قتيلا (501 منهم كانوا من السويد). ولكن، على رغم فداحة عدد الغرقى الذي جرح ضمير العالم لبرهة وعصف بقلوب أهل الشمال عصفاً موجعاً، حتى أن السويد اعتبرتها أبشع كارثة مزقت تاريخها المعاصر (أعلن رئيس الوزراء السويدي في ذلك الوقت إنغفار كارلسون، قرار الحكومة السويدية بعدم انتشال السفينة واعتبار مكان غرقها قبراً جماعياً؛ حيث تم ردمها واتخاذ عدد من الإجراءات لضمان احترام حرمة القبر وما يحتاج إليه من حماية قانونية)، إلا أن صدى الفاجعة لم يدم لأكثر من أيام (لا أحد يتحدث اليوم عن هذه الكارثة إلا في تاريخ ذكراها).
الغرق قبل أن تطفو جثة إيلان لم يكن يقلق العالم. خبر يقال ويمضي. وحتى فجيعة إيلان بجسده الصغير الملقى على أطراف الكون كطعنة أصابت قلب البشرية (لن أتوقف هنا أمام قتله مرة أخرى برسوم شارلي إيبدو، فقد قامت الملكة رانيا بما يجب في هذا الصدد)، لكني سأشدد على إن الموت على شواطئ المتوسط صار منذ ذلك التاريخ يلفت الأنظار من جديد، وأصبح له على نحو مفاجئ طعم «الألم العالمي». ودخلت شواطئ ليبيا في الحسبة المرة والصعبة المقاس من هذا الباب، ليس فقط لأن ماء البحر «الليبي» المالح/ الكالح قد جرى بالدماء بعد ذبح «داعش» عشرات من المصريين الأبرياء على شواطئ سرت «المحتلة»، ولكن أيضاً لضخامة عدد الجثت التي صارت تطفو على ذلك الشاطئ المتوسطي المكسور الجناح (جثت من كل جنس ولون. واقع وجع وألم وطغاة). جثت دفنت هنا وهناك، بعد أن «ألقت بعصاها واستقر بها النوى»... في أم «اليم» الليبي.
كان الطاغية معمر القذافي هدد الغرب إن لم ينهض لنجدته من طوفان الثوار في 17 شباط (فبراير) 2011، بفتح الباب أمام المهاجرين الأفارقة لغزو أوروبا... لكن «داعش»، بعد أن فتحت له «سرت» -مدينة القذافي- أبوابها وفرشت له الطريق بالترحيب، هو من حوّل قوارب المهاجرين إلى سلاح تهديد «نووي» ضد الغرب. وقد فاقم تدهور الوضع الأمني في ليبيا، بعد تمدد الشقة بين أشقاء الثورة بالأمس، من حجم هذا التهديد، ونوعه. على النحو الذي صار معه ملف «الهجرة غير الشرعية» وتدفق الآلاف المؤلفة من البشر القاصدين أوروبا عبر أرض ليبيا وبحرها، يزعج ويقلق ويرسم ملامح جديدة للخرائط الاستراتيجية للمقاومة في حسابات الغرب/ والعرب.
ما الذي يدفع هؤلاء إلى الهجرة؟ ولماذا يصرون على امتطاء قوارب متهالكة؟... وفق السؤال ذاته يؤسس ملف الهجرة (الذي قررت له حكومة الوفاق الوطني هيئة قائمة بذاتها) رغم حداثة هذه المفردة في القاموس الليبي، لمعضلة إنسانية وسياسية/ إرهابية متشابكة وشديدة التعقيد، فإن الآلاف العازمة على المضي عبر البحر الليبي إلى أوروبا تشكل مزيجاً إنسانياً غير مسبوق. وفق تجمعهم من مختلف أصقاع الأرض على الأراضي الليبية (من أقصى الشرق الآسيوي وأقصى الجنوب أو الشرق والغرب الأفريقي../ عرب وعجم وأفارقة). بينهم شريحة كبيرة من دون شك هم الفارون من الحروب والطغاة (في سورية أو القرن الأفريقي أو السودان... أو بعض مناطق أفريقيا)، إلا أن الشريحة الأكبر تضم ما يُسمى بالعازمين على «الهجرة الاقتصادية». مع ذلك نجد إن صعوبة الحصول على التأشيرة لبلدان الشمال جعلت سبيل هؤلاء إلى «الجنة الموعودة» يمر عبر بوابة مهربي البشر ومصاصي الدماء. هؤلاء يكتفون بوضعهم على تلك القوارب ودفعهم نحو الموت، أو الحياة في مراكز التوقيف، حيث قد يتهددون بالعودة من حيث أتوا (خصوصاً وقد زاد من صعوبة الإقامة هناك انزلاق شريحة جديدة بين هؤلاء -وهي الأخطر في الحسابات الدولية- إلى الجهاديين/ أو الإرهابيين).
في حقيقة الأمر هذه الشريحة الصغيرة كان لها أن تقلب ميزان الأمور في ما يتعلق بآليات التعامل مع المهاجرين في أوروبا ممن تُكتب لهم النجاة من الغرق، وأصبح المهاجر، أياً كانت محركات هجرته والمأساة التي جعلته يفترش البحر لينجو بجلده، منظوراً إليه نظرة ريبة وشك، وأنه ربما يقصد أوروبا ليفجر نفسه.
تروي لي ليلي السورية (التي كنت التقيتها في مخيم الزعتري في الأردن إثر تحررها من سجون الطاغية الأسد، الذي عرفت فيها ألواناً من القمع والقهر والموت البطيء، وشهدت الكثير من الماسي والمجازر والاغتصاب.... قبل أن يقايضها رجال الجيش السوري الحر بعدد من أسراهم من رموز النظام)، أن ما أصاب الثورة من خيانات جعلها عرضة لتهديدات مُضافة حتى في المهجر، وإن عصف مُصابها جعلها تيأس من الحياة وصارت تفضل الموت (حاولت الانتحار وتم إنقاذها)، هكذا تطوع أحدهم لنجدتها من ذلك اليأس، قال لها إنه يكفي أن تدفع ألف يورو لكي ينقلها عبر ليبيا إلى الشواطئ الإيطالية. شرح لها أن الوضع في ليبيا قد حول هذه الشواطئ إلى بوابة مفتوحة على أفق العالم، وأنه يكفي أن تجد المبلغ لتكون بعد أيام في أوروبا. حاولتُ إقناعها بأن عبور البحار خطر مُضاف، وبأن تنتظر بعون الله حلاً أضمن... لكنها لم تكن تسمع. كانت تحلق في أفق مقامه بين الموت والحياة.
لم تمض أيام حتى وصلتني منها رسالة على الهاتف (أنا الآن في ليبيا)... وأردفت هذه الجملة الواردة بين قوسين بمقولة للمناضل الأسطوري تشي غيفارا: «كنت أتصور أن الحزن يمكن أن يكون صديقاً! لكنني لم أكن أتصور أن الحزن يمكن أن يكون وطناً نسكنه ونتكلم لغته ونحمل جنسيته!»... بعد أسبوع اتصلت بي هاتفياً لتخبرني بأنها وصلت إلى أوروبا بعد أن فقدت في البحر نصف من خاض معها تجربة العبور المأسوي (وإنها الآن في مركز توقيف/ ينظرون في طلبها بشأن اللجوء الإنساني)... وحيث لازالت ساعة كتابة هذا المقال.
صديقتي الأستاذة سحر بانون وكيلة حقوق الإنسان في وازرة العدل في ليبيا، صارت تحدثني عن وجع غريب يسكن قلبها، حيال مسؤوليتها عن إعطاء تصاريح لدفن جثامين الغرقى من دون تحديد هوياتهم. تشرح لي كيف ترتعد يدها كل مرة توقع فيها على تصريح دفن غريق غريب وبعيد من وطنه... وتوقع على ورقة لا تحمل أكثر من رقم ملف «عينة البحث عن تحديد الحمض النووي»!
صار الحديث عن هؤلاء الغرقى على الشواطئ الليبية يسبق الحديث عن مأساة الشعب الليبي ذاته في ظل العصف وأخطار التقسيم وتهديد الدواعش. لقد استغرق أهل الشمال الليبي في مهمة جديدة لم يعرفها هذا البلد الطيب من قبل: حفر القبور استعداداً لدفن الغرباء... قبور كثيرة/ مريرة ومجعدة الوجه. قبور لن تتعرف على من يسكنها حتى يأتي الله بفرج قريب. تشرح السيدة بانون أن «مهمة حفظ العينات وترقيم القبور وحدها ما سيتيح لمن سيبحث عن قريب أن يسترده في يوم ما». أن يسترد الموتى هوياتهم، وتمنح أسرهم حق لعنة الطغاة.