مَنْ سمع بإقليم خيبر بختونخا الباكستاني ربما ارتبط ذهنه بما جرى فيه قبل أسبوعين من الآن تقريباً. ففي الثامن من هذا الشهر، ضَرَبَ زلزال بلغت قوته 5.9 على مقياس ريختر هذه المنطقة (وعموم مناطق البنجاب والعاصمة إسلام أباد) قُدِّر عمقه بـ 232 كيلومتراً، واستمرّ لمدة 20 ثانية.
كانت اللحظة مؤلمة لكنها عاطفية أيضاً. فكل ذي حِسٍّ إنساني يمكنه أن يُنجِد مَنْ يوازيه في اللحمة وهو يستمع لتأوّهاته أو يراه في العراء يسكن. أما مَنْ مات لديه ذلك الحِسّ فإنه لا يستطيع الشعور بشيء. ومن تلك الأصناف هم الإرهابيون الذين عادة ما تجذبهم الرغبة الحيوانية للدَّم أكثر مما تفعله دفوع الإنسانية، وهو ما جرى في إقليم خيبر بختونخا ولكن بطريقة أخرى. فقبل أيام، وبعيداً عن الشعور بما خلفه الزلزال (حتى في حدّه الأدنى من خوف وضرر نفسي) قام مسلحون متطرفون باقتحام جامعة باشا خان في مدينة جارسادا الواقعة في إقليم خيبر بختونخا شمال غرب باكستان فقتلوا 20 شخصاً بينهم طلاب وحراس وشرطة وأستاذ جامعي. بينما قال أحد المسئولين الأمنيين بأن «عدد القتلى قد يرتفع إلى 40 شخصاً» نتيجة جراح البعض الخطرة.
كيف حصل الحادث؟ كان الضباب الكثيف قد أطْبَقَ على المكان، فاتخذ المسلحون ذلك فرصة لتسلق أسوار الجامعة وهم يحملون الأسلحة الرشاشة والقنابل، حيث كان الطلاب في قاعات الدرس، فأطلقوا النار على رأس مَنْ صادفوه، بما فيهم الطلاب النيام في مسكن الجامعة.
لن أقرأ الحادث باعتباره حادثاً سيجترّ آخر في سلسلة لا تنتهي من إراقة الدم، بل سأقرؤه في صورته الأعمق منذ أن سعى مؤسس دولة باكستان محمد علي جناح إلى الاستقلال بأرض باكستان عن الهند قبل 76 عاماً.
كان المسلمون في البنجاب والإقليميْن الشمالي الغربي، بالإضافة إلى بلوشستان والسند وغرب البنغال وشرقه يتوقون إلى دولة منفصلة عن الهند يكون الإسلام شعارها ولكن وفق منهج سَمْحٍ لا غلو فيه ولا تطرف، فلا مجال للأوتوقراطية ولا الثيوقراطية بل للمواطنة الحقة.
قرر ثمانية ملايين مسلم في الهند، أن يتركوا بيوتهم ويُغادروا باتجاه الدولة الإسلامية الفتية التي سُمِّيت بجمهورية باكستان الإسلامية. وكانت تلك الهجرة مغامرة بالحياة. كان الأمل والزخم كبيريْن جداً. لكن حصلت الانتكاسة عندما فشلت نخب سياسية بعد وفاة جناح في خلق مجتمع لا يخضع للإقطاع، وغير مُقسَّم عشائرياً ولا قبلياً ولا طائفياً ولا تسيطر عليه العائلات الثرية. كما فشلوا في أن يخلقوا أحزاباً غير شللية لا يحيى الحزب بوجودها ولا يموت بغيابها.
وفي ذات الوقت بدأت التحالفات السياسية الداخلية استثمار الزخم الديني الهائل لتحقيق أهدافهم للمناكفة، مستغلين وجود 65 في المئة من الباكستانيين في المناطق الريفية المعتمدة على الزراعة وتربية الماشية وبالتالي العيش على حدود الفقر والحاجة، فبدأ التحالف بين السياسيين ورجال الدين والتجار ينشأ ويعمل بصورة مشوّهة ودون أهداف وطنية عليا.
كان هذا الأمر قبل حرب المجاهدين في أفغانستان. وعندما جاءت الحرب كان القرار هو ضرب السوفيات بما هو موجود وبما يُمكن توفيره دون حسابات أخرى، وهو ما جعل الأمور تنفلت. فالأفكار التي كانت مجرد نظريات دينية، بات لها أرض للتجريب، وتم دحرجة الكرة من فوق الجبل نحو المجهول.
لقد غُضَّ الطرف عن الحدود «الوهمية» التي كانت تفصل باكستان عن أفغانستان، الأمر الذي ضاعف من المشكلات الأمنية، مع توافد أربعة ملايين لاجئ أفغاني داخل باكستان، فساعد على خلق دوائر دينية، اختلط فيها القبلي الأفغاني الوافد بالتطرف الديني المترسّخ في باكستان، أعقبه تكوُّن بيئة جهادية عالمية في كِلا البلدين.
كان ذلك المشهد مريعاً. لقد ظهرت تنظيمات محلية متطرفة كـ «طالبان» التي كانت تعتمد في مقاتليها على الأفغان والباكستانيين بصورة رئيسة، وبرزت تنظيمات دولية متطرفة كـ «القاعدة»، التي كانت تعتمد في مقاتليها على عرب الشرق الأوسط بصورة أساسية وعلى بعض الأجانب.
وعندما انتهت الحرب ضد السوفيات جاءت «حرب التصفية الداخلية» بين المجاهدين، فكانت الغَلَبَة للتيار الذي وجد فيه الأميركيون القدرة على فرض سيطرة على الأرض الأفغانية وهو طالبان أملاً في أن يُنهِي القتال المستعر. لكن، الذي بدا أن الأميركيين امتطوا أسداً قد دار بأنيابه لهم.
لقد ظهر أن هناك ممراً من الأفكار الدينية يجمع الطالبانيين والقاعدة. فطالبان أولاً لم تكن أفغانية الفكر بقدر ما كان الإلهام والتأثير من خارجها. كما إنها لم تكن تستطيع أن ترفع بندقية نشطة دون الاعتماد على تنظيم «القاعدة» التي كانت مَدِينَة له إلى حد التضحية بكل شيء من سبيله، على الأقل في تلك الفترة عندما كانت في السلطة.
هذا الأمر لم يجعل أفغانستان لوحدها قلقة في أمنها بل امتدّ الأمر إلى باكستان، التي باتت تتلقى الشظايا وكأنها صَلَيَات من النار. بل إنها اكتشفت بأن جزءً هاماً من عمل تلك التنظيمات كان يعمل ويُخطط في باكستان وعمقها، مِنْ قِبَل تنظيمات غاية في التعقيد والحرفية.
وقد شبّه أحد السياسيين الباكستانيين شبكة تنظيم القاعدة بالتالي: «لو أردنا تشبيه طبقات الإرهاب بالشجرة لسَمّينا المهاجمين أوراق الشجر فقط. تظل الأوراق تنمو، بل قد تتضاعف ما دامت الشجرة تعيش. أما شبكة «القاعدة» كلها بما في ذلك العقول المُدبِّرة والمخططون فهي تشبه أغصان الشجرة، فإذا قضينا على «القاعدة» نكون قد قطعنا فرعاً واحداً من الشجرة فقط، مع أنه فرع كبير، وتظل شجرة الإرهاب تزدهر ما دامت الجذور باقية في حالة سليمة». وهذه هي المشكلة المركّبة التي عانت منها باكستان.
إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"العدد 4886 - الجمعة 22 يناير 2016م الموافق 12 ربيع الثاني 1437هـ