لم يكن إسقاط طائرة «السوخوي» العسكرية الروسية من قبل تركيا، وما أعقبها من انهيار للعلاقات السياسية بين موسكو وأنقرة، سوى القشة التي قصمت ظهر الجمل. فهذه العلاقات ظلت مرشحة للانهيار، وبشكل خاص، منذ انطلاقة ما عرف بـ «الربيع العربي»، الذي وجدت فيه تركيا فرصة لتوسيع مناطق مصالحها الحيوية، في حين وجدت روسيا في ذلك تقليصاً لحضورها في ضفاف البحر الأبيض المتوسط.
وعلى هذا الأساس، فإن إسقاط الطائرة الروسية من قبل الأتراك، وبغضّ النظر عن اختلاف سردية الطرفين حول طبيعة ومكان الحدث، ليس مهمّاً في هذه القراءة إلا بقدر علاقته، بصدام الاستراتيجيات بين البلدين.
لقد ظلت العلاقة التركية الروسية، لعقود طويلة مأزومة، ومحكومة بثقل التاريخ. ولسوء طالع هذه العلاقة، فإن هذا التاريخ، كان دائماً مثقلاً بما يعوق تطورها بشكل إيجابي، وبما يخدم مصالح البلدين. فشهور العسل، النادرة والمتقطعة بين البلدين، سرعان ما تصطدم بهذا التاريخ، متراجعة، مسافات طويلة إلى الوراء.
حدث الطائرة ذاته، ليس استثنائيّاً، ويمكن حدوثه بين أي بلدين متجاورين، كما هو الحال الآن بين تركيا وسورية، فلا أحد بإمكانه أن يجادل في احتمال وقوع الخطأ في منطقة مشتعلة منذ خمس سنوات، وتكتظُّ بعشرات الطائرات العسكرية من جنسيات مختلفة، تتواجد في سورية تحت ذريعة محاربة الإرهاب. وكان بإمكان تركيا تجاوزه باعتباره خطأ غير مقصود، والحال هذه تنطبق على روسيا، التي يمكنها هي الأخرى، اعتباره خطأ تركيّاً يمكن احتماله، ولا يكون مدعاة إلى التراجع عن علاقة بين البلدين، وصفت قبل أقل من عام بالاستراتيجية، وخاصة أن الطرف التركي أعرب عن أسفه، ومضى إلى ما هو أبعد من ذلك بالقول، إنه لو علم بهوية الطائرة لما أقدم على إسقاطها.
لفهم وقع ثقل التاريخ في هذه الأزمة، تجدر الإشارة إلى أن الدُّب القطبي عمل باستمرار منذ العهد القيصري، واستمراراً إلى الحقبة الشيوعية، وما بعدها للوصول إلى المياه الدافئة في الخليج العربي والبحر الأبيض المتوسط. وقد حال وجود النظام الإمبراطوري في إيران والسلطنة العثمانية، دون تحقيق هذا الهدف الروسي الأثير.
في الحرب العالمية الأولى، شاركت روسيا إلى جانب الحلفاء في الحرب ضد السلطنة العثمانية. وكان من نتائج هذه الحرب سقوط النظام القيصري الروسي والسلطنة العثمانية بشكل مدوّ على السواء.
ففي روسيا القيصرية، التي دخلت الحرب في ظل ظروف اقتصادية غير مواتية، صوت الجنود الهاربون من الجبهة بأقدامهم العارية وبطونهم الخاوية ضد الحرب وانتهت الأمور بانهيار أمني واقتصادي، وارتفاع معدلات الجريمة، بما هيأ الأسباب إلى انهيار حكم القيصر وانقضاض البلاشفة لاحقاً على السلطة.
أما السلطنة، التي شكلت مع الشاهنشاهية الإيرانية متراساً قويّاً يحول دون تقدم الروس إلى الجنوب، والتي انتابها الوهن، كانت الحرب الكونية الأولى بالنسبة إليها بمثابة رصاصة الرحمة. لكن نتيجة الحرب، لم تحقق لحكام روسيا الجدد ما صبوا إليه من التسلل جنوباً، سواء باتجاه الخليج أو نحو البحر الأبيض المتوسط.
لقد انتهت الحرب العالمية الأولى، بوصول مصطفى كمال أتاتورك إلى الحكم في تركيا، وتحولها إلى النظام العلماني، وبتحالف أتاتورك مع الغرب الخصم اللدود للشيوعية، استمر حتى يومنا هذا. والحال تلك لم تختلف كثيراً عن إيران، التي بقيت عصية على الروس.
في نهاية الحرب الكونية الثانية، عمل الروس مجدداً على الاقتراب جنوبًا، فاحتلوا أذربيجان، وبعض الأجزاء الشمالية من إيران، إذ أقاموا نظاماً شيوعيّاً العام 1948، فيما أطلقوا عليه بـ «جمهورية مهاباد». ومهاباد هي منطقة كردية، وبالنسبة إلى الأتراك والإيرانيين، فإن بقاء هذه الجمهورية يحمل خطرين لا يحتملان. أولهما: قيام دولة كردية، يمكن أن تكون مستقبلاً بذرة لدولة قومية تضم الأكراد في إيران والعراق وتركيا وسورية، وتشكل تهديداً لأمنهما القومي. أما الخطر الآخر الجاثم، فهو تأسيس دولة شيوعية، على حدودهما مباشرة، دولة تستمد قوتها وحضورها من تحالفها مع الاتحاد السوفياتي.
أما الغرب، بقيادة الولايات المتحدة، فإن قيام جمهورية «مهاباد»، هو خارج القسمة، ولا يمكن القبول به؛ لأنه اعتداء على سيادة دولة حليفة، كما أنه يشكل تهديداً للخليج العربي، الذي تأكد في حينه، أنه يمتلك مخزوناً هائلاً من الذهب الأسود، سيجعل مالكيه، يمتلكون مفاتيح خزائن العالم.
ولذلك مارس الغرب مختلف أنواع الضغوط على السوفيات، للانسحاب من مهاباد، ولتتقدم على إثر ذلك الانسحاب، قوات الشاهنشاه، فتطيح بالنظام الشيوعي، وتعدم قياداته.
ظلت العلاقة بين تركيا وروسيا محكومة بثقل التاريخ. فالأتراك لم يكونوا ليغفروا لروسيا إسهامها في إضعاف سلطتهم. والروس لم يكونوا ليغفروا لتركيا التي شكلت متراساً غير قابل للكسر يحول دون وصولهم إلى حوض الأبيض المتوسط.
وحين حدثت الحركة الاحتجاجية في سورية، رأت فيها تركيا استمراراً للحراك الذي حدث في مصر وتونس، وإن تمكن المحتجون من إسقاط الدولة السورية، سيتمكن الإخوان من تشكيل إمبراطورية إخوانية، في أربع دول، هي: تونس ومصر وتركيا وسورية، وربما اليمن لاحقا.
أما روسيا بوتين، فرأت أنه بسقوط الدولة السورية، ستفقد آخر موقع استراتيجي بحري لها في حوض المتوسط. ولم يكن ذلك مقبولاً مطلقاً لحكومة تتهيأ للبروز مجدداً وبقوة للمسرح الدولي. ولذلك وجدت في الأزمة سبيلاً لتأكيد حضورها السياسي والعسكري مجدداً ولكسر احتكار تركيا للضفة الشرقية من هذا البحر.
وهكذا يصنع جدل التاريخ والجغرافيا، القرار السياسي، في موسكو وأنقرة. وستظل العلاقة بين البلدين، كما هي بين البلدان الأخرى، محكومة بهذا الجدل، إلى أن تنتصر الجغرافيا على التاريخ، وهو ما لا تلوح بوادره حتى الآن في العلاقة بين البلدين.
إقرأ أيضا لـ "يوسف مكي "العدد 4885 - الخميس 21 يناير 2016م الموافق 11 ربيع الثاني 1437هـ