تركز مراكز الدراسات الاستراتيجية في السنوات الأخيرة إطلالتها على الحروب من زاوية اقتصادية وجيوسياسية، لِمَ لا وقد أصبحت الموارد أداة السيطرة على العالم وسبباً رئيسيّاً في الصراعات الدائرة، لِمَ لا واستهداف الشرق الأوسط عامة والحرب على سورية خاصة، ليس ببعيد عن الصراع على «الغاز» كمورد. إنَّ مكامن القوة لم تعد في الترسانات العسكرية النووية وغير النووية على رغم أهميتها، إنما حيث توجد «الطاقة»، والخبراء يجمعون على أن القرن الواحد والعشرين هو عصر «الطاقة النظيفة» بامتياز والبديل عن تراجع احتياطيات النفط، الأمر الذي يعني أن السيطرة على مناطق «الاحتياطي الغازي» يمثل هدفاً استراتيجيّاً في النزاعات الدولية التي تبرز تجلياتها اليوم إقليميّاً، إنه يشكل الممر الأمثل لتشكيل النظام العالمي الجديد. في هذا الشأن قلما يختلف المحللون، لكنهم بالتأكيد يتعارضون حول الشياطين الكامنة في التفاصيل التي يمكن مقاربتها بين وجهتي النظر التالية.
شائعات الغاز السوري
الأولى تتضمن في مقالة لعلاء الدين الخطيب يفند فيها مسألة بناء خط أنابيب قطري للغاز أو إيراني كمحرك للصراع على سورية، فالأمر بالنسبة إليه مجرد شائعات لا تستند إلى دليل علمي موثق وخصوصاً أن لا ذكر له في تقارير الطاقة للاتحاد الأوروبي، كما أن سياسات الاتحاد الأوروبي تتجه إلى دعم مشروعي خط أنابيب «التيار الجنوبي ونابوكو» اللذين سنتناولهما لاحقاً، وتجارة الغاز الطبيعي تواجه مشكلتين تتمثلان في ارتفاع كلفة نقله عبر الأنابيب، وصعوبة وتكلفة تخزينه، ولهذا فأوروبا وقعت عدة عقود مع الولايات المتحدة لاستيراد الفحم ولاسيما وهي تعيد تجديد محطات توليد الكهرباء العاملة على الفحم.
أما قضية الاكتشافات الهائلة للنفط والغاز السوري، فيقلل من شأنها ذاكراً «إنه في ظل عدم الاستقرار تبقى قطر أكبر مُصدِّر للغاز عالميّاً، صحيح أن حقول الغاز والنفط المكتشفة واعدة وضخمة نسبيًّا، لكنها لن ترفع دول مناطقها إلى مصاف الدول الأكثر إنتاجًا أو تأثيرًا على السوق العالمي، فبحسب الدلائل العلمية الموثقة تبقى حصة سورية هي الأقل، والدراسات الاستكشافية في مياهها منذ 2005 بطيئة ولم تنته أو تقدم أرقاماً مؤكدة ومثبتة تحفز للاستثمار، كلها أرقام تعبر عن توقعات وأمنيات ليس إلا، والمؤكد أن «احتياطها الغازي» يساوي «9 تريليونات قدم مكعب» وبما يعادل «1.5 في المئة» من الاحتياطي العالمي مقارنة باحتياطي روسيا الذي يفوقها 16 مرة، وإيران بـ 10 مرات، وعليه يستبعد وصول المخزون السوري للكمية المتخيلة والمسوّق لها إعلاميًّا.
صراع على «الغاز» ومساراته
على النقيض مما سبق يشرح الاقتصادي عماد فوزي شعيبي في مقاله تفاصيل «الصراع الغازي»، فيشير إلى تنبه الروس بعد سقوط الاتحاد السوفياتي بأن الصراع التسلحي منهك، وأن غيابهم عن عوالم الطاقة مكن الولايات المتحدة من النمو والسيطرة على القرار السياسي في مناطق النفط، وفي سياق عودة روسيا إلى المسرح العالمي وسعيها للسيطرة على الاقتصاد الأوروبي الذي يعتمد على الغاز بدلاً عن النفط أو بالتوازن معه، رسمت روسيا استراتيجيتها الجديدة بتأسيس شركة «غاز بروم» العام 1995 كي تتحرك في نطاق وجود الغاز من روسيا فأذربيجان فتركمانستان فإيران «للتسويق» وصولاً إلى الشرق الأوسط، والشركة هنا تمثل الركيزة التي تأسس عليها مشروعا «السيل الشمالي والسيل الجنوبي». تحرك موسكو كان على مستويين استراتيجيين، الأول باتجاه تحالف روسي - صيني تحصل عبره الصين على الغاز بأفضليات ومرونة في أسعار إمداداته، شريطة نفاذ الروس إلى أسواق الصين المحلية، وعمل خبرائهما في تنسيق استراتيجيات الطاقة وتنمية البنى التحتية للسوق وتفعيل مصادرها البديلة، ما يفسر الفيتو الروسي - الصيني لصالح سورية في مجلس الأمن، والثاني بتأسيس مشروعي السيل للسيطرة على غاز البحر الأسود ومسار تخزينه في «تركيا». وعليه يجوز السؤال عن ماهية «السيل الجنوبي والشمالي» وعلاقتهما بالمشروع الأميركي «نابوكو»؟
«السيل الجنوبي» خط يُنقَل عبره الغاز من «روسيا إلى البحر الأسود فبلغاريا ويتفرع إلى اليونان فجنوب إيطاليا إلى هنغاريا فالنمسا»، ومثله خط «السيل الشمالي» الذي كلف «4.7 مليارات يورو» ويسمح بسيطرة روسيا على غاز البحر الأسود وأذربيجان، وتحكّمها ببيعه لمن تشاء ونقله من روسيا إلى ألمانيا مباشرة من «فاينبرغ إلى ساسنيتز» عبر بحر البلطيق دون المرور ببلاروسيا، حيث يخف الضغط الأميركي عليها. من هنا تكمن أهمية العلاقة بينها وبين ألمانيا كونها تشكل عنصر ربط ونقطة انطلاق لاستراتيجيتها عبر القارة الأوروبية التي تتزود بقرابة «41 في المئة» من احتياجاتها للغاز، ماذا يعني ذلك برأي الكاتب؟ يعني أن تغييراً جوهريّاً حدث في علاقات الشرق بالغرب، وتراجعاً للنفوذ الأميركي، وكذا صداماً يتجلي في حجم الصراع الحالي على الغاز ومراكز تجميعه. هنا يشير إلى أن ألمانيا هيأت نفسها لتكون طرفاً وشريكاً في مشروع السيل، إذ تبين التقارير أن تأسيس «غاز بروم» تم بالتعاون بين «رئيس مجلس إدارة سابق» لشركة صناعة الغاز والنفط الألماني» وهو صديق لموسكو، وسفير روسي سابق في «وستفياليا» شمالي نهر الراين بإلمانيا حيث القاعدة الصناعية لشركة الكهرباء «RWE» و»E.ON» المرتبطة بروسيا، وما تلعبه من دور أربع شركات ألمانية ذات صلة بروسيا في صياغة سياسة الطاقة الألمانية، الأمر الذي يفسر التراخي والصمت الإلماني بحسب بعض المراقبين إزاء التدخل الروسي بسورية، وحججها بتحسين «تأمين الطاقة» لأوروبا.
في المقابل يجد الشعيبي أن تصميم المشروع الأميركي «نابوكو» تأسس لمنافسة المشروعين السابقين ولنقل الغاز من تركيا إلى النمسا، ومن الشرق الأوسط وقزوين للأسواق الأوروبية. قدرت تكاليفه العام 2014 بـ» 11.2 مليار دولار» بيد أن تأخير إنجازه لظروف تقنية حتى 2017، قد رفع التكلفة إلى «21.4 مليار دولار»، ويرى أحدهم أن سبب تأخره يفسر اللهاث الأميركي -الفرنسي (الناتو) لحسم الصراع السوري عسكريّاً ولتأمين أوضاع هادئة ومستقرة للاستثمار ونقل الغاز، وكذلك يفسر استهداف إيران بالصراع، وخصوصاً بعد إبرام اتفاقية مسار غازها عبر العراق وسورية، ما يعني تطويق مسار الغاز في «نابوكو» وجعل سورية بؤرة ومنطقة تجمع وإنتاج للغاز، وبالتالي فتح فضاء جيوسياسي واستراتيجي للطاقة كان من الممنوعات. إن تعثر «نابوكو» يناسب روسيا ويفسح لها مجال البحث عمن يدعم مشروعها ومسارعتها في عقد صفقات الشراء لمصادر «نابوكو» من جهة أخرى.
مخاطر الـ «Shale Revolution»
تكشف التقارير أن معركة الطاقة والموارد ليست جديدة على الساح الدولي، فقد وضع خطتها ديك تشيني لمواجهة الصين وروسيا واستمرت مع أوباما.
الخطة ترتكز على عناصر أساسية منها، تشجيع إنتاج النفط والغاز الحجري محليّاً أو عبر ما عرف «بثورة الشيل Shale Revolution»، بيد أن لذلك، بحسب الخبراء، مخاطره على التوازنات الجيولوجية، وقد يدفع بحروب الطاقة إلى مستويات جديدة، إضافة إلى كلفه العالية وأضراره الكبيرة، لماذا؟ لأسباب تتعلق بعمليات حفر باطن الأرض وحقنها بضغط وضخ كمية مياه ورمال هائلة فيها بعملية «التكسير المائي»Hydraulic Fracturing وتحطيم الصخور التي تحتوى على النفط وإطلاق الغاز، ما قد يتسبب بزلازل أرضية وانبعاث مواد مسرطنة وأضرار بيئية لا تعد ولا تحصى. الخطة الأميركية أيضاً تركز على مسألة السيطرة على تدفق نفط الخليج ومواده الخام وعلى الممرات البحرية، فضلاً عن تشجيع «الاستقلالية الأوروبية للطاقة» بحصول أوروبا على النفط والغاز من بحر قزوين وتقليل اعتمادها على الغاز والنفط الروسي، وتجاوز روسيا عبر إقناع أذربيجان وكازاخستان وتركمانستان بتصدير غازها عبر قنواتها وليس عبر أنابيب «غاز بروم» الشركة الروسية.
الخلاصة حروب الخليج السابقة واحتلال العراق واستمرار الحرب على سورية وتفكيك النظام العربي ليس بعيداً بل جوهر خطط وأهداف السيطرة على تدفق مصادر الطاقة «الموارد» وضمان التحكم بمساراتها، ولاعجب، فمن يملك الغاز وممراته صار اليوم في قلب الصراع.
إقرأ أيضا لـ "منى عباس فضل"العدد 4883 - الثلثاء 19 يناير 2016م الموافق 09 ربيع الثاني 1437هـ