الأدب الجميل ليس هو نص «الفكرة الجديدة»، إنما هو نص «الأسلوب» المبتكر والمتفرد بخصائصه الجمالية، نحن عندما نقرأ نصاً أدبياً ناجحاً فإننا ننساق معه بمتعة وتلذذ ليس لأنه يقول لنا ما لا نعرفه، إنما هو يقوله بنحو ولغة «مختلفة»، النص الإبداعي هو نص يتضمن وضوحاً وعمقاً وقوة في التصوير وجمالاً في ابتكار المشاهد وثراءً في اللغة، النص الناجح لا يقدم معلومة ميتة، بل يمنح فكرة حيّة ويوقظ إحساساً نائماً ودفيناً في مغاوير وأعماق النفس، النص الجميل لا يزيد قارئه علماً أو يرفع عنه جهلاً، إنما هو يجعل الأشياء أمامه أكثر وضوحاً وأشد إغراءً وأكثر قرباً وأيسر تناولاً.
كيف تستيقظ هذه المواهب عند الكاتب الموهوب؟
بالقراءة واستيعاب التراث الأدبي والممارسة المنتظمة، الأديب إبراهيم عبدالقادر المازني (ت 1949) الذي يُعد من المجددين وكبار كتاب العربية في العصر الذهبي لمصر الذي كانت تتوهج في زمنه بنجوم الفكر والأدب، ذلك الرعيل الذي انفتح على حضارة الغرب فأفادت منهم حضارة الشرق، كان من أبرع الناس في الترجمة عن الإنجليزية، وقد نظم الشعر، وله فيه معان مبتكرة اقتبس بعضها من أدب الغرب، ثم رأى الانطلاق من قيود الأوزان والقوافي فانصرف إلى النثر. وقرأ كثيراً من أدب العربية والإنجليزية وكان جلداً على المطالعة، وقد ذكر المازني لخيرالدين الزركلي (ت 1976م) صاحب (معجم الأعلام) أنه حفظ في صباه (الكامل للمبرد) غيباً ! وكان ذلك سر الغنى في لغته.
ولعله كان ملتزماً بنصيحة يحيى بن خالد البرمكي (ت 190ه) مؤدب الرشيد العباسي ومعلمه ومربيه والوزير الجواد وسيد بني برمك، الذي كان يردد نصيحته لأبنائه: «اكتبوا أحسن ما تسمعون، واحفظوا أحسن ما تكتبون، وتحدثوا بأحسن ما تحفظون».
وقد قرأت ذات مرة أن شاعر العراق الأكبر محمد مهدي الجواهري (ت 1997) كان يعكف منذ حداثة السن على قراءة وحفظ أغلب أشعار ونصوص كتاب «الأمالي» لأبي علي القالي، وفي السنوات الأخيرة من حياته، عندما وهنت قواه وفترت حواسه كان يقرأ له أقرباؤه، وكان يطلب إعادة قراءة بعض الفقرات التي تعجبه من أي كتاب أدبي، ويرددها كمن يداعب قطعة حلوه بطرف لسانه، وهو ما قد يفسر جانباً من عبقرية الرجل وسر الفخامة وقوة قصائده التي تُعد بحق من غرر الشعر العربي في القرن العشرين.
وكان العرب قديماً يولون الأدب أقصى عنايتهم، والشعر كان ديوانهم وديدنهم، يقول ابن خلدون: «سمعنا من شيوخنا في مجالس التعليم أن أصول هذا الفن و أركانه أربعة دوارين وهي أدب الكتاب لابن قتيبة وكتاب الكامل للمبرد وكتاب البيان والتبيين للجاحظ وكتاب النوادر (هو نفسه الأمالي) لأبي علي القالي البغدادي».
هضم واستيعاب هذا التراث الأدبي العظيم مثل الزاد الأول، ونقطة البداية الحقيقية لكثير من حملة الأقلام البارزة في العالم العربي، مفكرين وأدباء وشعراء وسياسيين وروائيين، أغنى قريحتهم، وأمدهم بخزين ضخم من الألفاظ والأمثال والأساليب الإنشائية والأفكار والمشاهد الموحية، والخيال الخصب، فالكاتب الصحافي الأشهر محمد حسنين هيكل، وهو واحد من أهم 11 صحافياً في العالم، وكتبه تترجم إلى 31 لغة، وتنشر مقالاته في أشهر الصحف الأميركية والبريطانية، وتصغي إليه بيوت الخبرة ومراكز الأبحاث في الدنيا لاستعراض خبراته، هو من أكثر الصحافيين في العالم العربي مقدرة على التلاعب وتطويع الكلمات، وتقديم أفكاره ببيان ساحر، وذاكرة تسجيلية مذهلة، وليس سراً أن الرجل يحفظ 10 آلاف بيت من الشعر العربي، وفي مكتبه ما بين 20 - 25 ألف كتاب، وهو يكتب بانتظام منذ سنة 1942، مقالاته وكتبه، ومذكراته اليومية التي تحوي الكثير مما يعد «غير صالح للنشر»! وهو بالطبع كثير في عالمنا العربي الذي يضيق بـ «الصراحة» والكلمة الناقدة، وإن تجمّلت وارتدت رداء النصيحة.
إقرأ أيضا لـ "وسام السبع"العدد 4882 - الإثنين 18 يناير 2016م الموافق 08 ربيع الثاني 1437هـ