أصدر مركز كارنيغي للسلام الدولي عبر فرعه للشرق الأوسط تقريراً عميقاً بشأن العراق. التقرير «الموسَّع» كُتِبَ تحديداً بشأن أوضاع الجيش العراقي منذ أن أسَّسه الأميركيون بعد حلِّه بقرار من بريمر وحتى الآن وعُنوِنَ بـ «زواج غير سعيد: العلاقات المدنية - العسكرية في عراق ما بعد صدام» للكاتبة والمحلّلة البارزة في معهد الاتحاد الأوروبي للدراسات الأمنية فلورنس غاوب.
ولأهمية التقرير، فقد آثرتُ أن أستعرض جوهره هنا، طمعاً في الفائدة، وخصوصاً أنه يتحدث عن مؤسسة عسكرية في واحدة من أهم مناطق العالم العربي بل وفي الجغرافيا الآسيوية الغربية وهي العراق، الذي لم يمنع غيابه «السياسي» أن يحظى بأهمية يتقاتل عليها الشرق والغرب.
يقع التقرير في 25 صفحة ويُعالِج بعمق كيف تأسّس الجيش العراقي بعد الاحتلال بطريقة جعلته ينهار العام 2014، أمام الجماعات الإرهابية في غرب وشمال العراق. وهو يُرجِع ذلك إلى العلاقة المتنافرة التي حكَمَت المدنيين والعسكريين في تلك المؤسسة وحولها، إلى أن وصل الانهيار التام.
لامَ المدنيون العسكريين بعد انهيار أربع فرق عسكرية في الموصل بسبب ما أسمَوه بـ «استشراء الفساد في أوساطهم، وارتفاع معدلات التغيّب، وتدنّي معايير التدريب وضعف التماسك». بينما لامَ العسكريون المدنيين بـ «الفشل في توفير التوجيه والتمويل الكافيَيْن» للجيش العراقي.
لكن الذي يبدو أن الأساس هو أعمق من كل ذلك، وهو يرجع إلى طريقة تأسيس هذا الجيش، إلى أن أفضت الأحداث والتراكمات إلى وجود علاقة مدنية/ عسكرية مختلّة في العراق، تحكمها المركزية والشخصانية والطائفية بشكل كبير أدى إلى «انعدام الثقة والتدخّل والإقصاء» بدل التطوير.
بعد حلّ الجيش العام 2003، أصبح من اللازم إعادة العديد من الضباط السابقين لهذه المهمة. كان ذلك في العام 2005م. حصلت هناك مشكلة. كان القادة العسكريون الذين تمّت إعادتهم يحملون عقيدة عسكرية مختلفة عن العقيدة الأميركية فضلاً عن تدريبهم السوفياتي، لذلك لم يستطيعوا إقامة علاقة مستقرة مع الحكومة «أو نقل خبراتهم وذاكرتهم المؤسّسية» إليها.
يضاف إلى ذلك، أنهم واجهوا مؤسسة عسكرية تتضخم بشكل سريع (تم تجنيد 14 ألف رجل في الجيش العراقي الجديد كل 5 أسابيع) من دون كفاءة وتعمل في بيئة طائفية، إذ «أصبحت الهويّات العرقية والدينية هي حجر الزاوية في الحكومة العراقية» وبات التوظيف يسير على ذلك النمط، وشمل ذلك مؤسسة الجيش، وهو ما كان يتعارض «مع مبادئ الجدارة اللازمة لإدارة جيش فعّال».
وعلى رغم أن عديد الجيش قد وصل إلى 200 ألف جندي في فترة سريعة فإنه واجه مشكلتين أخريين: الأولى أن فترة تدريب كل واحد فيه لم تَزِدْ على 3 و 5 أسابيع فقط. والثانية أنه وحتى العام 2008 لم يُشغَل سوى 73 في المئة من وظائف الضباط و69 في المئة من وظائف ضباط الصف» على رغم أن وجودهم «أمرٌ حيوي لأية قوة عسكرية، لأنهم يتولّون إدارة المؤسسة ككل».
كانت المشكلة كبيرة. لقد أصبح 70 في المئة من الضباط «وكل ضابط برتبة لواء تقريباً» ممن خدموا «في السابق في القوات المسلحة التابعة لصدام حسين» عاجزين عن إدارة مؤسسة فاسدة تعمل في دولة تنخرها الطائفية من أعلاها إلى أسفلها. وأصبحت وزارة الدفاع العراقية هي الأولى في تاريخ العراق «التي تعمل بطاقم من الموظفين المدنيين، وليس العسكريين». كيف حصل ذلك؟
خَشِيَ رئيس الوزراء العراق السابق ونائب رئيس الجمهورية الحالي نوري المالكي من ضباط الجيش خلال وجوده في الحكومة فَفَرَض سيطرة صارمة عليه، مستغلاً وجود ذاكرة سلبية لهذه المؤسسة وعلاقاتها بالانقلابات في تاريخ العراق (6 انقلابات وانقلابات مضادّة، و7 محاولات انقلاب فاشلة).
فأصحبت «الحاجة إلى تأكيد السيطرة المدنية» على الجيش فرصة للهيمنة بطريقة غير مهنية. فكانت قراراته مباشرة وتتعلق بالقرارات العسكرية الخاصة بالأفراد والمعدات.
كانت المشكلة التي أضعفت معنويات الجيش هي قيام المالكي بتأسيس «جماعات شبه عسكرية كثقلٍ موازن للقوات المسلحة، وأنشأ أجهزة أمنية لمراقبة الجيش» وكأن الأخير خصمٌ لا شريك. وأصبحت المراكز الإقليمية العسكرية تعمل «تحت قيادة جنرالات موالين له» وجعل «اللواء السادس والخمسين من الفرقة السادسة» يعمل تحت إمرته مباشرة. كما كان متجاوزاً السلك الهرمي العسكري عبر إعطاء الأوامر مباشرة للضباط وهو ما كان يُربِك الخطط الموضوعة.
لقد قام المالكي بترقية الضباط الموالين له من دون موافقة برلمانية، ودفع بتسريع عمليات الدمج التي لم تكن تفضي إلاّ إلى وجود ضباط عديمِيْ الكفاءة، إذ كانت مهمّتهم مراقبة الضباط الكبار وعرقلة عملهم، فاستقال الكثير من القادة العسكريين الكبار، أو سُرِّحوا فأصبح الجيش بلا جدارة.
لقد فشل القادة العسكريون المخضرمون الذين كانت مسئوليتهم التواصل مع الحكومة في التأقلم مع بيئة غابت عنها الثقة بسبب «الزعامة السياسية الطائفية، وعدم الارتياح إزاء الثقافة العسكرية الجديدة المستوردة من الولايات المتحدة، والإذلال الوطني بسبب حلّ الجيش».
لقد أصبحت الفرقة الثامنة في الجيش متأثرة بحزب الدعوة، والفرقة الرابعة متأثرة «بحزب الاتحاد الوطني الكردستاني»، بينما الفرقة السابعة متأثرة بالصحوات، والفرقة الخامسة تتبع «المجلس الأعلى الإسلامي العراقي»، وكانت «الوحدات التابعة لهذه الفرق تحمل بوضوح رايات وشعارات شيعية وسنّية وعربية وكردية». لقد دُمِّر الجيش تماماً ولم يعد قادراً على الصمود على الأرض.
يخلص التقرير إلى أن إصلاح مؤسسة الجيش و»وضع حدّ للطائفية والكوتا الحزبية، قد يحسّن الاحترافية العسكرية». هذا الأمر مهم كي يستطيع العراق مواجهة هذا التحدي الكبير الذي يُمثله الإرهاب وخرق سيادة البلد وإلاّ فلا «أحد يريد الموت لسببٍ لايؤمن به» كما قال أحد العسكريين.
إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"العدد 4881 - الأحد 17 يناير 2016م الموافق 07 ربيع الثاني 1437هـ
أستاذ محمد
أنت باحث وكاتب محايد كفوؤ وجريئ كتاباتك مفيده للقارئ وممتعه ولكن أخشي أن يتم رميك بأوصاف لا تليق من قبل البيئه التي تعمل فيها
لماذا كل هذا الموقف العدائي للعراق
نعم غريب أمره اليوم !!!!
هل بالفعل الجيش العراقي إنهار كما يدعي الكاتب العزيز ؟؟ سقوط الموصل ومناطق أخرى ليس بإنهيار الجيش العراقي بل لأسباب غير واتضحت وضوح الشمس لا نريد سردها الآن ،، ولم لم يتطرق الكاتب للجماعات التي عرقلت بتأسيس هذا الجيش في بدايته من قبل الطائفيين الحاقدين على العراق ( حارث الضاري وابنه وعدنان الدليمي وووو ) أنا من معجبين بهذا الكاتب لكن اليوم لم يوفق أبدا وكلامه كأنه موقف عدائي تجاه العراق.
هذا رأي وليش إعلان حرب
المقال هو رأي ولا أعتقد بأن من الضروري أن يعتيره الزائران على أنه عداء من الكاتب للعراق! أتمنى أن تتسع صدور البعض
لم تعد العراق بعده كما كانت