التدهور البيئي وعدم الاستقرار الاجتماعي مترابطان، ولن نستطيع أن نحل مشاكل أحدهما بمعزل عن الآخر. فالتدهور البيئي يؤدي إلى ضغوط اقتصادية واجتماعية تؤدي بدورها إلى مزيد من التدهور البيئي. الوضع البيئي مقلق في المنطقة العربية، ويمكن أن يزداد سوءاً تحت تأثير تغير المناخ، ومحدودية المرونة الطبيعية بالمقارنة مع بلدان أخرى، والنزاعات، وأزمة اللاجئين غير المسبوقة.
ولكن على رغم الوضع السائد، تشكل منظمات مثل المنتدى العربي للبيئة والتنمية (أفد) قوة رافعة وجاذبة في المنطقة نحو مستقبل أكثر استدامة بيئياً. أهنئ المنتدى على ذلك، وأهنئه على التقرير المهم الزاخر بالمعلومات الذي أتى في الوقت المناسب حول «الاستهلاك المستدام من أجل إدارة أفضل للموارد في البلدان العربية». وكثير من النقاط التي سأشير إليها أتت في الواقع من هذا التقرير.
التحديات البيئية كبيرة، ويجب التصدي لها بالتزامن مع التحديات الاجتماعية والاقتصادية والتهجيرية الراهنة والضاغطة. لكن التحديات البيئية يمكن تحويلها أيضاً إلى فرص. ويتم انتهاز هذه الفرص حول العالم، لأن الرعاية البيئية الجيدة هي أيضاً تنمية جيدة. وقد بدأ اغتنام هذه الفرص في العالم العربي، حيث تستثمر عدة بلدان في مستقبل «أخضر» أكثر تكيفاً ومرونة، وهذا ما أريد أن أتحدث عنه.
سأعرض أولاً وضع البيئة في منطقتنا، ومن ثم أتحدث عما يتم فعله لمعالجة المسائل البيئية، مع أمثلة عن الممارسات الجيدة التي يجب تعزيزها وتعميمها.
هناك خمسة مؤشرات رئيسية للإجهاد البيئي في العالم العربي. أولاً، على المستوى الأوسع، يستخدم البنك الدولي الرأسمال الطبيعي (الغابات، المعادن، النفط، الهواء النظيف، المياه النقية) لتقييم مدى نجاح بلد ما في إدارة ثروته. وللأسف، فإن بلداناً عربية كثيرة تبذر رأسمالها الطبيعي مقلصة قاعدة رأسمالها الكلي التي تعتمد عليها اقتصاداتها، والمياه أفضل مثال. فالسحب المفرط للمياه الجوفية في كثير من بلدان الشرق الأوسط هو مثال على استنزاف الرأسمال الطبيعي.
ثانياً، يقيّم البنك الدولي أيضاً تكاليف التدهور البيئي، أي التكاليف المرتبطة بالمياه الملوثة والهواء الملوث والغابات المفقودة والمواد الكيميائية السامة. وتقدر كلفة التدهور البيئي بنحو 2 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي في تونس، و4 في المئة في لبنان، و5 في المئة في مصر، وأكثر من 6 في المئة في العراق.
ثالثاً، معروف أن توافر المياه العذبة النظيفة آخذ في الانخفاض. وتقتصر حصة الفرد من الموارد المائية المتجددة في المنطقة العربية على 655 متراً مكعباً في السنة، وهذا يمثل انخفاضاً بنسبة 42,5 في المئة خلال الفترة من 1992إلى2014. والمنطقة العربية هي الأكثر شحاً بالمياه في العالم، حيث نصيب الفرد من الموارد المائية العذبة هو نصف نصيب الفرد في ثاني أكثر منطقة شحاً وهي جنوب آسيا. كما أن نحو 75 في المئة من السكان يواجهون بالفعل مشكلة ندرة المياه.
رابعاً، ازداد عدد الأشخـاص الذين يتنفسون هواء ملوثاً في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا بنسبة 50 في المئة خلال 15عاماً. ففي العام 1990 كان 220 مليون شخص يتنفسون هواءً أسوأ مما نصت عليه معايير منظمة الصحة العالمية، فارتفع العدد عام 2010 إلى 336 مليون شخص، لا يعيشون فقط في القاهرة وبيروت وغيرهما من العواصم بل في كثير من المدن الصغيرة. وتقدر منظمة الصحة العالمية أن 8 في المئة من جميع الوفيات في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا ناجمة أساساً عن تلوث الهواء في الداخل والخارج.
خامساً، لتغير المناخ أفدح الأثر على المنطقة العربية التي تعتبر الأشد حرّاً في العالم. وفي عالم أسخن بدرجتين مئويتين، سوف يزداد إلى حد كبير عدد أيام السنة التي تشهد درجات حرارة عالية بشكل استثنائي مع ما يرافق ذلك من انعدام الراحة الحرارية. في عمّان على سبيل المثال، سوف يزداد هذا العدد من 4 أيام إلى 62 يوماً. ومنطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا هي أيضاً من المناطق الأكثر تعرضاً لموجات الجفاف. ويترافق ارتفاع درجات الحرارة مع ارتفاع معدلات التبخر، ما يشكل تحدياً إضافياً لمنطقة فقيرة مائياً. ويعاني الفقراء بشكل خاص من أثر تغير المناخ لأنهم أكثر تعرضاً وأكثر تأثراً فهم، أكثر من سواهم، يعملون تحت الشمس، ويعيشون على مقربة من السهول المعرضة لفيضانات، وتغمرهم المياه في كثير من الأحيان، وينفقون حصة كبيرة من دخلهم على شراء الطعام ما يشكل تحدياً كبيراً إذا ارتفعت أسعار الغذاء نتيجة شح المياه المتفاقم مع تغير المناخ.
هناك أمثلة كثيرة على ممارسات بيئية جيدة في العالم العربي. ونحن بحاجة فقط إلى الارتقاء بها وتعميمها.
في قطاع الطاقة، على رغم غنى بلدان عربية كثيرة بموارد الطاقة، فهي تزيل تدريجياً الدعم عن الوقود الأحفوري والكهرباء، ما سيؤدي إلى تخفيض الاستهلاك وبالتالي إلى تلوث أقل.
وشهد العقد الأخير تطوراً ملحوظاً في برامج الطاقة النظيفة، إذ بدأت بلدان غنية بالطاقة، مثل الإمارات، النظر في تطوير مصادر متجددة لتوليد الكهرباء كبديل اقتصادي للهيدروكربونات. وإضافة إلى ذلك، في البلدان المستوردة للطاقة مثل المغرب والأردن ومصر، برز تطوير الطاقة المتجددة كأداة هامة لتعزيز استقلال الطاقة وأمن الطاقة. وقد استثمر المغرب في إحدى أكبر محطات الطاقة الشمسية في العالم.
وفي قطاع المياه، نرى بلداناً في المنطقة تتخذ اجراءات لكي يكون قطاع المياه داعماً للنمو المستدام والشامل. من ذلك زيادة تعرفات المياه في المدن في الأردن ودبي ومصر. واستهلاك المياه الزراعية، الذي يستأثر بنحو 70 في المئة من جميع المسحوبات، يتجه ليصبح أكثر كفاءة بشكل تدريجي، من خلال سياسات تحد من ري المحاصيل المنخفضة القيمة، والاستثمارات في نظم الري الحديثة، والإدخال التدريجي للعمل بالعدادات، ورفع التعرفات في بلدان مثل المغرب والسعودية والأردن. وتتم إدارة الموارد المائية الجوفية بمزيد من العناية، من خلال تقييم الموارد ومراقبتها بشكل أفضل، والتعرفات، والترخيص للآبار وفرض ضوابط على الضخ.
في ما يتعلق بتلوث الهواء، سأقدم مثالاً من مصر حيث أدى استخدام الأدوات المالية والشراكة بين القطاع العام والقطاع الخاص إلى خفض كبير في التلوث وغازات الدفيئة. ففي مقابل الاستثمار في تخفيض التلوث، حصلت مرافق صناعية في القاهرة والاسكندرية على قروض ميسرة، بفائدة منخفضة وفترة سماح طويلة، بين العامين 2007 و2015. وهي شملت مصانع الأسمنت والأسمدة والورق والمواد الغذائية والطوب والمطابع وسواها. خفّضت هذه الصناعات العوامل البيئية الخارجية السلبية من خلال إطلاق كميات أقل من ملوثات الهـواء والميـاه. وبلغ الاستثمار في إزالة التلوث 324 مليون دولار، وأسفر عن تخفيض مجمل الملوثات المعلقة في الهواء بمقدار 65 ألف طن في السنة، إضافة إلى أكثر من 656 ألف طن من ثاني أوكسيد الكربون.
النفايات قطاع آخر حيث الفرص غير مستغلة إلى حد كبير لتحسين نوعية الحياة للجميع، بمن فيهم الأشخاص السريعو التأثر المنخرطون حالياً في أعمال غير نظامية لجمع النفايات وإعادة تدويرها، وللاستفادة من مصادر بديلة للطاقة المتجددة. في المغرب، تم تحويل إدارة النفايات من نظام يعتمد على الطمر إلى نظام يعزز الاسترداد وإعادة الاستعمال والتدوير. مثلاً، أدى فرض ضريبة بيئية على البلاستيك إلى توليد إيرادات أُعيد ضخها في سلسلة البلاستيك لتشجيع فرزه وتدويره.
كما ذكرت في البداية، المشاكل البيئية والاجتماعية الراهنة في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا مترابطة وغير مستدامة. وهناك مبادرات واعدة كثيرة في المنطقة تحاول مواجهة القضايا البيئية مباشرة من خلال استغلال أفضل للموارد. وعلينا أن نعمل معاً للارتقاء بهذه المبادرات وتعميمها لكي يكون لها أثر قوي ودائم.
العدد 4879 - الجمعة 15 يناير 2016م الموافق 05 ربيع الثاني 1437هـ