كانت سيطرة تنظيم "داعش" على الموصل، في صيف العام 2014، لحظة حالكة بالنسبة إلى الجيش العراقي الذي شهد تفكّك فرقه الأربعة المدجّجة بالسلاح بشكلٍ سريع.
هذه المقاربة الإقليمية المعمَّقة أُعِدَّت كجزءٍ من مشروع "إعادة النظر في العلاقات المدنية-العسكرية 2014-2015: الحوكمة السياسية والاقتصادية في المرحلة الانتقالية" الذي وضعه مركز كارنيغي للشرق الأوسط، والذي يسعى إلى ترقية البحث حول القوات المسلحة في الدول العربية وتحديات مرحلة الانتقال الديمقراطي.
كانت سيطرة تنظيم "داعش" على الموصل، في صيف العام 2014، لحظة حالكة بالنسبة إلى القادة المدنيين والعسكريين في العراق. ففي أعقابها، حمّل كل طرف الطرف الآخر مسؤولية التفكّك السريع لأربع فرق عسكرية مدجّجة بالسلاح. فقد اتّهم القادة العسكريون القادة المدنيين بالفشل في توفير التوجيه والتمويل الكافيَيْن، في حين اتّهم المدنيون نظراءهم العسكريين باستشراء الفساد في أوساطهم، وارتفاع معدلات التغيّب، وتدنّي معايير التدريب وضعف التماسك. كان كِلا الطرفين على صواب، غير أن العلاقات المدنية-العسكرية المختلّة كانت السبب الرئيس لانهيار الجيش. فقد كانت السيطرة المدنية في يد رئيس الوزراء وحده، من دون حسيب أو رقيب، وأصبح الجيش مؤسّسة طائفية غير فعّالة. وبدلاً من العمل على استحداث مسؤوليات الدفاع المشتركة، والتأسيس لتبادل متوازن للخبرة العسكرية والموارد المدنية، وتطبيق مبادئ المساءلة والجدارة، والحدّ من تدخّل الطرفين في شؤون بعضهما، ظهر نظام يقوم على انعدام الثقة والتدخّل والإقصاء.
وبسبب خشيته من ظهور تحدّيات سياسية من جانب سلك الضباط، سعى رئيس الوزراء آنذاك نوري المالكي، الذي شغل منصب رئيس الوزراء بين عامي 2006 و2014، إلى فرض سيطرته الشخصية الصارمة على الجيش. لتحقيق ذلك، لجأ المالكي إلى اغتنام الحاجة إلى تأكيد السيطرة المدنية الفعّالة لكي يتدخّل في مروحة واسعة من الأمور العسكرية. فقد تدخّل مباشرةً في الأمور العسكرية، بدءاً من اتخاذ القرارات الخاصة بالأفراد، وصولاً إلى المعدّات والتجهيزات، في حين همّش أيضاً الأطراف الفاعلة السياسية والمؤسّسية الأخرى المسؤولة اسمياً عن إدارة العلاقات المدنية-العسكرية (ولكنها أضعف من أن تمارس السلطة، مثل وزارة الدفاع ولجنة الأمن والدفاع في البرلمان). ومن خلال اختزال رأي القوات المسلحة في السياسة الدفاعية والإدارة، أضعف المالكي قدراتها المؤسّسية والقتالية، وحرم نفسه والحكومة من الخبرة اللازمة.
وبالمثل، كان قادة الجيش العراقي غير مستعدين أو عاجزين عن القيام بدور إدارة الشؤون الدفاعية المنوط بهم لجملة من الأسباب. فقد تم حلّ القوات المسلحة في العام 2003 لارتباطها بنظام الرئيس السابق صدام حسين، ومع ذلك، كان لابدّ من إعادة شريحة كبيرة من الضباط إلى الخدمة بعد العام 2005، لأن عملية بناء الجيش العراقي الجديد كانت تسير ببطء شديد وسط تفاقم التمرّد المسلح واشتداد وتيرة العنف المدني. لكن على الرغم من أن عودتهم ضخّت خبرات تشتدّ الحاجة إليها، فإنها تمخّضت أيضاً عن نتائج سلبية: الفساد، والنفور من القوات الجديدة، وعدم القدرة على تحمّل الإسهامات والتفاعلات البنّاءة. هذه القوات التي تم استدعاؤها من جديد، لم تكن تثق بالعقيدة العسكرية الأميركية وبالأساليب المستخدمة لبناء الجيش العراقي الجديد بين عامَي 2004 و2011. ونتيجةً لذلك، لم يتمكّن هؤلاء الضباط الذين تم استدعاؤهم من إقامة علاقة بنّاءة مع السلطة التنفيذية، أو نقل خبراتهم وذاكرتهم المؤسّسية إلى الحكومة الجديدة.
وأخيراً، أدّى تكريس الطائفية السياسية إلى إضعاف القوات المسلحة على نحو يتعذّر إصلاحه. فقد أصبحت الهويّات العرقية والدينية فجأة هي حجر الزاوية في الحكومة العراقية بعد العام 2003، وبدأ انتخاب المسؤولين وتوظيف الموظفين العموميين يتناسب مع هذا النمط. ومن ذلك الحين وصاعداً، أصبحت المحاصصة هي التي تحدّد تخصيص كل وظيفة في القوات المسلحة ومؤسّسات الدولة الأخرى، الأمر الذي يتعارض مع مبادئ الجدارة اللازمة لإدارة جيش فعّال. وقد أثّر ذلك بصورة خاصة على الرتب العليا في سلك الضباط، والتي كانت تتألف في معظمها من العرب السنّة، وبدأت أعداد العرب الشيعة والأكراد تفوق أعداد السنّة لأغراض تتعلق بالمحاصصة.
عيوب البناء وإرث الغزو
حدث التحوّل المثلّث في العلاقات المدنية-العسكرية في العراق عقب التخلّص من صدام حسين، عندما نشبت المقاومة المسلحة ضد الاحتلال الأميركي والنظام السياسي الجديد في أواخر العام 2003. ولأن الولايات المتحدة كانت تعتزم منذ البداية سحب قواتها بحلول العام 2007، فقد اضطرّ الجيش العراقي إلى بناء مؤسّساته بشكل سريع جداً، في الوقت الذي كان يقاتل حركة تمرّد متصاعدة. في مثل هذه الحلقة المفرغة، لم يكن في وسع الجيش مكافحة العنف المنتشر، لأنه لم يكن مستعداً للقيام بهذه المهمة آنذاك. كما أن هذا العنف نفسه عرقل قدرته على إكمال الاستعدادات الضرورية.
في العام 2005، تكثّفت جهود التدريب والتوظيف، وبحلول العام 2007 ازدادت عمليات التجنيد في قوات الأمن العراقية، عندما استفحل العنف ليتحوّل إلى تمرّد. وقد تم تجنيد أربعة عشر ألف رجل في الجيش العراقي الجديد كل خمسة أسابيع. وفي غضون ست سنوات، وصل حجم الجيش العراقي إلى أربعة أضعاف، حيث وصل عدد الجنود العاملين إلى 200 ألف تقريباً. لكن، في حين تلقى جميع أفراد القوات العراقية تقريباً شكلاً من أشكال التدريب الأميركي، فقد كانت عمليات التدريب تستغرق في العادة بين 3 و5 أسابيع، أي أكثر قليلاً من فترة التدريب الأساسي.
أضرّت عملية التجنيد التي تمّت على عجل بسلك الضباط على وجه الخصوص، لأن الأمر يتطلّب سنوات أو حتى عقوداً لتدريب الضباط من ذوي الرتب المتوسطة أو العالية. في العام 2008، تم شغل 73 في المئة فقط من وظائف الضباط و69 في المئة من وظائف ضباط الصف، وهي الفجوة التي لن يتم جسرها حتى العام 2018 على الأقل.2 ذلك أن وجود الضباط أمرٌ حيوي لأي قوة عسكرية، لأنهم يتولّون إدارة المؤسسة ككل. وفي الوحدات التي تم إنشاؤها من الصفر، كما كان الحال مع وحدات الجيش العراقي بعد العام 2003، يصبح سلك الضباط أكثر أهمية في تحديد ما إذا كان سيتم الحفاظ على تماسك الجيش.
وكما قال الجنرال الأميركي مارتن ديمبسي في العام 2007، عندما كان مسؤولاً عن تدريب الجيش العراقي: "لقد زدنا أعداد الضباط الشباب من رتبة ملازم ثانٍ من خلال الأكاديميات العسكرية على مدى ثلاث سنوات تقريباً، ولكن من الصعب حقاً زيادة عدد الضباط برتبة مقدم وعميد. ببساطة لايمكن أن يتم ذلك بين عشية وضحاها. لذلك كان علينا أن نعتمد بشكل كبير على استدعاء الضباط وبرامج إعادة التدريب. ومع ذلك، فإن عمليات استعادة مجموعة الضباط الأكفّاء بدأت بالانحسار".3 وبسبب حاجتها إلى الضباط من ذوي الخبرة، بدأت الولايات المتحدة بالاعتماد على الضباط الذين خدموا في الجيش العراقي السابق، حيث إن 70 في المئة من الضباط، وكل ضابط برتبة لواء تقريباً، كانوا قد خدموا في السابق في القوات المسلحة التابعة لصدام حسين.
لم تكن لجنة الأمن والدفاع في البرلمان العراقي (تراوح عدد أعضائها بين ستة عشر وسبعة عشر منذ العام 2005)، قادرة على الإشراف على عملية تطوير الجيش. ونادراً ما اجتمع أعضاء اللجنة في البرلمان، لأن العنف جعل الرحلة من وإلى المجلس التشريعي مغامرة خطرة. ففي العام 2007، انفجرت قنبلة داخل البرلمان وأدّت إلى مقتل أحد الأعضاء. وأكد الانفجار حقيقة أنه حتى داخل المنطقة الخضراء المحصّنة جيداً، بقي الأمن صعب المنال في عراق مابعد العام 2003. وخلال أول دورة له في حقبة مابعد صدام، اضطر البرلمان إلى تأجيل جلسات عدّة لأن أقلّ من ربع أعضائه (ولا حتى نصف النصاب القانوني) كانوا يحضرون للمشاركة في جلساته.4 إضافةً إلى ذلك، أصبحت مقاطعة جلسات البرلمان (ناهيك عن الانتخابات كلها، كما فعل الكثير من الناخبين السنّة في الانتخابات البرلمانية للعام 2005) أداة للتعبير عن المعارضة. وقد رفض بانتظام ممثلو الكتلة التي تدعم رجل الدين الشيعي مقتدى الصدر، وحزب العراقية، والأحزاب الموالية للأكراد، حضور جلسات البرلمان لهذا السبب.
نتيجةً لذلك، كان المسؤولون الحكوميون في العراق يعملون إلى حدّ كبير من دون رادع، في الفترة بين 2003 و2008. ولم تبدأ المؤسّسات الحكومية في ممارسة (جزءٍ من) دورها الرقابي إلا في نهاية تلك الفترة، بعد أن تراجعت أعمال العنف إلى مستوى مقبول.5 لم يستدعِ البرلمان العراقي سوى حفنة من المسؤولين، واستمرّ في التعامل مع الغياب والخلافات. كما أن انتخابات العام 2010 المثيرة للانقسام، التي أنتجت حكومة يقودها ائتلاف دولة القانون بزعامة المالكي، أصابت البرلمان بالشلل طيلة كل ذلك العام تقريباً. وكما كان عليه الحال في السنوات السابقة، لم تعمل لجنة الأمن والدفاع ولا البرلمان ككل باعتباره مراقباً مؤسّسياً على قطاع الدفاع. وقد تحسّنت معدلات الحضور تدريجياً منذ العام 2010، حيث وصلت إلى الثلثين. وتسبّب استيلاء تنظيم "داعش" في العام 2011 على مساحات واسعة من الأراضي العراقية في ارتفاع نسبة الحضور إلى 87 في المئة.
واجهت عملية إعادة بناء وزارة الدفاع القيود نفسها، شأنها في ذلك شأن غيرها من المؤسّسات في عراق مابعد العام 2003. وعلى الرغم من أن سلطة التحالف المؤقتة كانت قد قرّرت في الأصل إصلاح الوزارة فقط، فإنها بنتها من الصفر بدل ذلك. وأصبحت وزارة الدفاع هي الأولى في التاريخ العراقي التي تعمل بطاقم من الموظفين المدنيين، وليس العسكريين. قد تكون تلك خطوة إلى الأمام من حيث تأكيد السيطرة المدنية، لكنها كانت تعني أيضاً أنه لم تعد هناك أي ذاكرة مؤسّسية كي يُستفاد منها، ولا سابقة على ماينبغي أن يكون عليه دور وزارة الدفاع. علاوةً على ذلك، كان على وزارة الدفاع التي تعاني من نقص في القوة العاملة أن تتعامل مع المؤسّسة العسكرية التي تنمو بسرعة، الأمر الذي أدّى إلى بروز مخاوف أميركية وعراقية من أن الوزارة لن تكون قادرة على ممارسة سلطتها في المسائل الدفاعية. تم بناء الوزارة في ستة أشهر وزُوِّدت بالموظفين من دون مساهمة عراقية، ونتيجةً لذلك، لم تكن متماسكة ولا ناضجة بما يكفي لمنع التلاعب، ولم يشعر القادة العراقيون بأنهم يملكونها.7
على هذه الخلفية من العنف وبناء المؤسّسات السريع، تشوّهت العلاقات المدنية-العسكرية العراقية بسبب القادة المدنيين والعسكريين على حدٍّ سواء، وعزّز المجتمع ككل هذا التشوّه.
محصّن دوماً ضد الانقلاب: تدمير الجيش العراقي من أعلى
المالكي الذي تولّى مهام منصبه قبل أشهر فقط من تخلي الولايات المتحدة عن سيطرتها على الجيش العراقي في العام 2007، شاطر راعيه الأميركي القلق من إمكانية أن يوسّع الجيش نطاق نفوذه ليصل إلى ميدان السياسة.8 وعلى غرار معظم أقرانه المنتخبين، كان المالكي يدرك تماماً أن الجيش العراقي احتفظ بدور سياسي بارز في معظم تاريخ العراق الحديث. ففي حياة المالكي وحده، تم إسقاط ثلاث حكومات بالوسائل العسكرية، منذ استقلال العراق في العام 1932؛ وهزّت البلاد ستة انقلابات وانقلابات مضادّة، فضلاً عن سبع محاولات انقلاب فاشلة، ثلاث منها حدثت في عهد صدام حسين. وقد سعى المالكي إلى كبح جماح الجيش من القيام بأي محاولات أخرى.
حتى قبل تولّي المالكي منصبه، سعت القيادة العراقية إلى "تحصين نفسها من الانقلاب"، وركّزت جهودها على وجه الخصوص على قيادة الجيش العراقي الذي أُعيد تشكيله. ومع ذلك، مضت التدابير التي قام بها المالكي إلى ماهو أبعد من ذلك بكثير، حيث جعل عملية صنع القرار العسكري مركزية تحت قيادته، واستغلّ الولاءات الشخصية أو الانتماءات الطائفية لاستبعاد الأطراف الفاعلة السياسية المنتخَبة الأخرى. وأسّس جماعات شبه عسكرية كثقلٍ موازن للقوات المسلحة، وأنشأ أجهزة أمنية لمراقبة الجيش. وسعى المالكي أيضاً إلى منع العمل الجماعي، عن طريق التدخّل مباشرةً في العلاقات بين الضباط وجنودهم.9
كان مكتب القائد العام أداة المالكي الرئيسة لتعزيز السيطرة على القوات المسلحة، وهو استخدمه لتجاوز مؤسّسات الدولة الأخرى المعنيّة من الناحية النظرية بالعلاقات المدنية-العسكرية. ترأس المكتب، الذي صُمّم في الأصل كهيئة للتنسيق برئاسة رئيس الوزراء، فاروق الأعرجي، وهو حليفٌ للمالكي كان قد خدم في جيش صدام حسين، وتمت ترقيته إلى رتبة لواء ومعاون للقائد العام للقوات المسلحة.10 بهذه الصفة، أشرف الأعرجي على وزارتَي الدفاع والداخلية (وتجاهلهما)، وسيطر بالفعل على المسائل الأمنية في العراق. كان الأعرجي، الذي عمل خارج أي إطار قانوني، مسؤولاً فقط أمام رئيس الوزراء.
ما أن تولّى المالكي حقيبتَي الدفاع والداخلية في العام 2010، حتى أصبح مكتبُ القائد العام الهيئةَ التنفيذية الفعلية لقطاع الأمن كله، الأمر الذي أدّى إلى تهميش الوزارات المعنية.
على الرغم من وجود معارضة مدنية لجهود المالكي لتوطيد سلطته، إلا أنها كانت ضعيفة جداً وتفتقر إلى الخبرة كي تشكّل تحدّياً حقيقياً. لم يتم وضع آليات كافية للرقابة، وأدّى الوضع الأمني المتدهور إلى تحويل الانتباه إلى مكان آخر. أما الذين عارضوا التجاوزات التنفيذية للمالكي بنشاط، فقد تمّت معاقبتهم وتهميشهم في الغالب. ووجد وزير الدفاع آنذاك عبد القادر العبيدي، الذي سعى إلى عدم تسييس الوزارة والقوات المسلحة، نفسه ممنوعاً من خوض انتخابات العام 2010 بدعوى ارتباطه بحزب البعث، وهو اتّهام لا أساس له.11 كما جاءت معارضة أنشطة المالكي في قطاع الأمن من مقتدى الصدر والزعيم الكردي مسعود البارزاني. فكثيراً ما انتقد الصدر، وهو رجل دين شيعي يتزعم حركة سياسية-عسكرية كبيرة وحليف سابق للمالكي، رئيس الوزراء علناً. وبحلول العام 2008، تم نفي الصدر وحلّ ميليشياته تماماً.12
مع ذلك، استأنف الصدر انتقاداته بعد عودته إلى العراق في العام 2011، وأصدر "تحذيراً نهائياً للحكومة كي تتحمّل واجبها في حماية الشعب" و"ملاحقة وطرد الأعضاء غير الأكفاء والخونة في الأجهزة الأمنية الذين لايسعون إلا إلى السلطة والزهو".13 في الوقت نفسه، اتّهم البارزاني، وهو رئيس إقليم كردستان العراق، المالكي بأنه سلطوي يسعى إلى ممارسة السلطة الكاملة على القوات المسلحة. في العام 2012، أنهى البارزاني تعاونه مع المالكي، وأثار احتمال انفصال الأكراد. وكما ذكر موقع المونيتور، فقد دعا البارزاني إلى "حلّ قيادة الجيش العراقي لأنها غير دستورية" وانتقد سيطرة المالكي على قطاع الأمن. وتحدّى البارزاني أيضاً الرئيس ورئيس البرلمان ومجلس الوزراء "بسبب عدم مواجهة أساليب المالكي الديكتاتورية".14 وقد أيّد البارزاني والصدر تصويتاً في البرلمان بحجب الثقة عن حكومة المالكي في العام 2012، لكن التصويت فشل بسبب عدم اكتمال النصاب القانوني.
في ضوء غياب معارضة مدنية فعّالة، كرّس المالكي السيطرة على القطاع الأمني من خلال سلسلة من التدابير. فقد أنشأ مراكز قيادة إقليمية تجمع كل عمليات الجيش والشرطة في المحافظات التسع الأكثر تضرّراً من العنف في العام 2007، ووضعها تحت قيادة جنرالات موالين له. ثم استخدم المالكي هذه المراكز، التي كانت ترتبط مباشرة بمكتبه، لتجاوز هيئات صنع القرار الأخرى، بما في ذلك وزارتَي الداخلية والدفاع.15 وبدلاً من المرور عبر هيكل القيادة الرسمي، أنشأ المالكي هيكل قيادة غير رسمي (أنظر الرسم 1) عن طريق إصدار أوامر مباشرة للضباط، لابل كان يتصل بهم شخصياً في بعض الأحيان. وكان المالكي يربك أيضاً الخطط القتالية عندما يرغب في ذلك، عن طريق تحريك قواته والأمر بالقبض على الأفراد المعارضين.16
كانت سيطرة تنظيم "داعش" على الموصل، في صيف العام 2014، لحظة حالكة بالنسبة إلى الجيش العراقي الذي شهد تفكّك فرقه الأربعة المدجّجة بالسلاح بشكلٍ سريع.
في ظل حكومة المالكي، أخضع مكتب القائد العام وحدات عدّة من النخبة إلى سيطرته، مثل اللواء السادس والخمسين من الفرقة السادسة في الجيش العراقي (المعروف أيضاً باسم لواء بغداد). وقد أدّى ذلك إلى إضعاف سلطة وزارة الدفاع. تم نقل مقرّ قيادة "قوات العمليات الخاصة" أيضاً من وزارة الدفاع إلى مكتب القائد العام، واستُخدِم بصورة متزايدة باعتباره جهاز الأمن الشخصي للمالكي، المكلّف باستهداف خصومه السياسيين. وسرعان ما اكتسبت تلك القوات لقب "فدائيي المالكي"، مكرّرةً تجربة "فدائيّي صدام" السابقة، وهي القوة شبه العسكرية المكلفة بحماية النظام والتي أنشأها في تسعينيات القرن الماضي الرئيس العراقي السابق. قبل إنشاء المكتب، كان استهداف شخص ما بحاجة إلى موافقة اللجنة الوزارية للأمن الوطني، ورئيس الوزراء، ورئيس أركان القيادة المشتركة للجيش العراقي، ووزراء العدل والداخلية والدفاع. بحلول العام 2010، بدأ المالكي بالإشارة إلى نفسه باعتباره القائد العام، على الرغم من عدم وجود مثل هذا المنصب وفقاً للدستور العراقي. ومن خلال الزعم بأنه يمتلك السلطة "بصفته القائد العام"، طالب المالكي بإعادة فرز الأصوات في انتخابات العام 2010، وطلب إقالة مسؤولين كبار من "لجنة النزاهة" المكلفة بمكافحة الفساد.17
كما تدخّل المالكي في السياسة الخاصة بأفراد الجيش لإنشاء شبكة من الضباط الموالين له. فقد عيّن ورقّى الضباط من دون موافقة البرلمان المطلوبة، من خلال تصنيف هذه القرارات على أنها مؤقّتة، وقام بتجنيد الأفراد ذوي الخبرة العسكرية الضئيلة أو المعدومة في سلك الضباط (كان يطلق عليهم ضباط الدمج). وكانت وظيفتهم تتمثّل في الحفاظ على شبكة من مخبري المالكي في المؤسّسة العسكرية. واضطرّ قادة كبار من ذوي الخبرة أيضاً إلى التنحّي أو إلغاء قراراتهم في الكثير من الأحيان. أما الضباط الذين حاولوا تقليص دور الميليشيات الشيعية، فقد تم طردهم من دون أي اعتبار للإجراءات الرسمية والتسلسل القيادي. وتم تطهير الضباط الأكراد من فرقتين عسكريتين في الموصل، والاستعاضة عنهم بموالين للمالكي. ولم يتمّ تحميل الضباط المقرّبين من رئيس الوزراء المسؤولية عن الفشل، مثل التحقيقات الفاشلة في هجمات إرهابية.18 هذه التعيينات والترقيات وعمليات الطرد من الخدمة جعلت الجيش العراقي خاوياً من أي مظهر لمبادئ الجدارة.
حققت التدابير التي قام بها المالكي التأثير المطلوب: لم تعد القوات المسلحة في وضع يمكّنها من القيام بانقلاب. مع ذلك، وبمجرّد أن حان وقت القتال على نطاق واسع أثناء تقدّم تنظيم "داعش" في الموصل في حزيران/يونيو 2014، لم يكن الجيش قادراً على خوض حرب فعّالة. وقد عكس ديمبسي، الذي كان في ذلك الحين رئيس هيئة الأركان الأميركية المشتركة، هذا الشعور عندما قال في أيلول/سبتمبر 2014 إن نحو نصف الألوية المقاتلة العراقية فقط يمكن أن تُعتبَر "شريكاً محترماً". وأضاف أنه "يبدو أن لديها قدراً معيناً من التماسك، والتزاماً تجاه الحكومة المركزية"، قبل أن يحذّر من أن الألوية المتبقّية لديها مشاكل تتعلّق بـ"الاختراق والقيادة والطائفية".19
جيش قديم في حلّة جديدة: الإحباط داخل المؤسّسة
ساهمت القوات المسلحة، ومؤسّسة الدفاع أيضاً، في ظهور علاقات مدنية-عسكرية مشوّهة في عراق مابعد العام 2003. منذ البداية، انقسم الضباط على جبهات عدّة، ماجعل الجيش غير قادر على التواصل علناً مع القيادة المدنية.
كانت الانقسامات في سلك الضباط في الجيش العراقي نتيجة خللٍ في عملية إعادة البناء. فقد تركّز الضباط الذين تم استدعاؤهم من جديد في رتبة عقيد ومافوق، خلافاً للمجنّدين الجدد الموجودين بالكامل تقريباً في المناصب الدنيا أو المتوسطة. نتيجةً لذلك، كان معظم كبار الضباط من السنّة الذين تدرّبوا وفق تقاليد الثقافة العسكرية البعثية-السوفييتية، بينما كان أصحاب الرتب المتدنّية في الجيش أصغر سناً وتدرّبوا على يد الأميركيين، وكانت نسبة 50 في المئة منهم على الأقلّ من الشيعة.20
استجابت كلتا المجموعتين للأوضاع الجديدة بصورة مختلفة: فقد تكيّف الضباط الأصغر سنّاً من ذوي الخبرة العسكرية السابقة القليلة أو المعدومة مع لامركزية أساليب القيادة الأميركية، في حين قاوم كبار السّن من الضباط هذا الاتجاه الجديد. وكما هو متوقّع، باشر الضباط العراقيون المخضرمون العمل في مهنتهم استناداً إلى خبراتهم العسكرية السابقة، بما في ذلك الحروب ضد إيران (1980-1988)، والكويت (1990)، والتحالف الدولي (1990-1991). وقد استلزم ذلك الاعتماد على الهياكل الهرمية الصارمة والاستخدام المكثّف للمدفعية والقليل من الآراء والتعليقات.21 ووفقاً لاثنين من الباحثين، فإنه "في الوقت الذي يصل العديد من الضباط إلى المستويات العليا، تكون ثقتهم في أحكامهم الخاصة قد ترسّخت ومورست وكوفئت. ونتيجة لذلك، فإنهم يميلون إلى الثقة في حدسهم أكثر من ثقتهم بالأدلة التجريبية التي تقدَّم إليهم".22
جرت التدريبات العسكرية الفعّالة، التي يمكن أن تساعد في التغلّب على مقاومة الوسائل القديمة، على نطاقٍ محدود وعلى مستوى الرُتب العسكرية الأدنى. ولم تُصبح كليّة الدفاع الوطني العراقية وكليّة الحرب العراقية، اللتان درّبتا عسكريين من الرتب العليا، قيد العمل إلّا في العام 2011. وحتى في ذلك الحين، لم تضمّ كلّية الدفاع سوى عددٍ قليلٍ من الرتب العليا في هيئة طلّابها التي تضم 30 عضواً.23 أمّا المحاولات الأميركية القليلة لجسر الفجوات بين مختلف طبقات العسكريين العراقيين فهي، وبحسب تقرير صادر عن مجموعة الأزمات الدوليّة، "مُصمّمة أصلاً لوضع حد للثقافة السلطوية والوحشية للنظام السابق، وزرع قدر أكبر من احترام حقوق الإنسان وحكم القانون".24 لكن المراتب الأعلى قاومت هذه الجهود، واعتبرتها غير متوافقة مع التقاليد العسكريّة الخاصّة بها.
فشلت المراتب العليا من العسكريين العراقيين المُناط بهم التواصل مع القيادة المدنية، خاصة مع السلطة التنفيذية، في إجراء حوارٍ صريحٍ وبنّاء. وقد تأثّرت مقاربة القادة العسكريين لعملهم بغياب الثقة في الزعامة السياسية الطائفية، وعدم الارتياح إزاء الثقافة العسكرية الجديدة المستوردة من الولايات المتحدة، والإذلال الوطني المُفترض بسبب حلّ الجيش العراقي. وهكذا، بدل بناء شيءٍ جديدٍ، عاد القادة العسكريون العراقيون أدراجهم إلى ثقافة عسكرية شكّلتها تدابير جزائية تأديبية لاتقبل الانتقادات البنّاءة، ووضَعت صنع القرار في يد السلطة التنفيذية. ودلّ العسكريون، الذين وُصِفوا في إحدى الدراسات على أنّهم من "رجال البصْم"،25 غير مستعدّين لتحمّل مسؤولية أخذ القرارات في عراق مابعد العام 2003، أو ممارسة الفكر المستقل. هذا الأمر سلب القيادة المدنية الخبرة العسكرية المفيدة.26
نتيجةً لذلك، لم يستطع السلك العسكري لعب دورٍ بنّاءٍ، مثل ذلك المتوخّى من سلك أمني سليم وديمقراطي. أحياناً، حاول السلك العسكري إسداء النصح والانتقاد الصريح، مثل التحذير بأن الجيش غير مستعد للتأقلم مع انسحاب الولايات المتحدة في العام 2011.27 مثلٌ آخر هو استقالة قائد الفرقة 17 في العام 2013، مشتكياً علناً من "الأوامر غير المهنية، واعتماد سياسات مخطئة من قادة عسكريين كبار، واتخاذ قرارات عشوائية".28 لكن، بالإجمال، بقي السلك العسكري صامتاً، وواصل القادة العسكريون الكبار طرح نموذج العلاقات المدنية-العسكرية التي اكتسبوها خلال عهد صدّام حُسين.
تطييف الجيش العراقي: السياق الوطني
بدوره، أدّى أيضاً التطييف الواسع للسياسات غداة الاحتلال الأميركي، إلى تشويه العلاقات المدنيّة-العسكريّة في العراق. وعلى الرغم من الطائفية كانت موجودة كظاهرة اجتماعية صامتة قبل انهيار نظام صدّام حسين في العام 2003، إلّا أن النظام السياسي الجديد مأسس الطائفية. وأدّت تعيينات المجلس الحاكم لسلطة الائتلاف المؤقتة على أسس إثنية وطائفية في مجلس الحكم، جنباً إلى جنب مع حملة إجتثاث البعث المُنفلتة من عقالها، إلى تفاقم العنف والخطابات الطائفية. وبدأ رجال السياسة لعب الورقة الطائفية لحشد الأنصار، وسرعان ما تحوّل العنف إلى عنفٍ طائفي. نتيجةً لذلك، بدأ المواطنون يصوّتون أكثر فأكثر وفق خطوط دينية وإثنيّة. وكانت محصّلة هذه الديناميكيات أن أدّى نظام الكوتا العراقي الإثني والطائفي أيضاً إلى مأسسة تجنيد الفرق محلّياً، ما أسفر كذلك عن خلق وحدات متجانسة، الأمر الذي شوّه سمعة الجيش كمؤسسة وطنيّة. وطُبّق نظام الكوتا القائم على معايير إثنية ودينية بشكلٍ رسمي وغير رسمي لكن فقط على سلك الضبّاط هذا. في حين أن 75 إلى 80 في المئة من العسكريين المسجّلين كانوا من الشيعة.29 وتنصّ المادة التاسعة من دستور جمهورية العراق للعام 2005 على مايلي: "تتكوّن القوات المسلحة العراقية والأجهزة الأمنية من مكونات الشعب العراقي، بما يراعي توازنها وتماثلها دون تمييز أو إقصاء".30 ينبغي أن يتمّ الاختيار بطريقة إثنية مُنصِفة كما هو وارد في الدستور. لكن مفهوم "الإنصاف" غير محدّد.31 إذ في حين ينطبق ذلك فقط على طلاب ينخرطون في سلك الضبّاط، يُطبّق أيضاً نظام كوتا غير رسمي أو نظام توازن على الجميع. بالمقاربة مع الجيش اللبناني، لم يخصّص العراق كل رتبة في الجيش لطائفة دينية معيّنة، الأمر الذي يحدّ نظرياً من الاعتبارات الطائفية في العراق. لكن عملياً، وعلى الرغم مما ذُكر أعلاه، فإن القادة العسكريين والسياسيين يشدّدون على التبعيّة الدينية، مايجعل من العملية أقل شفافية إذا ماتمَّت مقارنتها مع نظام الطائفية المتمأسسة رسمياً في لبنان.
ماجعل أيضاً من التمثيل العادل أمراً صعباً، هو التوزّع التاريخي غير المتساوي بين الإثنيات والطوائف بين مختلف الرُتب العسكرية. فعلى الرغم من أن الأكراد والعرب السُنّة والشيعة متساوون تقريباً في الرتب الوسطى، جاء معظم العسكريين الذين تخطّوا رتبة عقيد من الطائفة السنّية خلال أعوام إعادة البناء الممتدة بين 2005 و2008. وبهدف تصويب هذا الخلل في التوازن الطائفي، سرعان ماتمّت ترقية عسكريين من الشيعة في مرحلة مابعد العام 2003، الأمر الذي أحبط نظراءهم السنّة.32 وكما قال عقيد في الجيش: "حتى أننا رأينا ضباطاً سنة يتظاهرون أنهم شيعة كي لايفقدوا وظائفهم."33 وعكس تجنيد عددٍ كبيرٍ من السنّة في السلك العسكري التابع لصدام حسين والانتقال إلى توظيف الشيعة بعد العام 2003، الطائفية المتفاقمة في النطاق الاجتماعي الأوسع. كما عكس الممارسة المتواصلة الخاصّة باستخدام التعيينات في القطاع الأمني بهدف حيازة السلطة السياسية. ولاتشكّل الكوتا القائمة على الإثنية والطائفية إشكالية جوهرية، غير أن خفض معيار قبول الشيعة دفع العسكريين السنّة إلى الشكّ بجدارة نظرائهم.
سُجّلت أعمال عنف في المناطق حيث يختلف السكان إثنياً ودينياً عن غالبية القوّات المتمركزة هناك. على سبيل المثال، اتُّهمت الفرقة الخامسة ذات الغالبية الشيعية بارتكاب فظائع بعد تموضعها في محافظة ديالى ذات الغالبية السنّية.34 لكن الوحدات العراقية التي تعمل في مناطق تتشاطر معها تركيبتها الإثنية أو الدينية، ليست بالتأكيد ضماناً للنجاح. وخير مثال على ذلك ماحدث في محافظة البصرة ذات الغالبية الشيعية في العام 2008، حين انهارت الوحدات ذات الغالبية الساحقة من الشيعة.
بدلاً من ذلك، يعتمد النجاح على ما إذا كانت البيئة داعمة لأهداف الحملة العسكريّة (مثلما حدث في جنوب بغداد) أم لا (على غرار ماحدث في البصرة والفلوجة والموصل). إذ يكون دعم الحملة أو معارضتها أمراً منفصلاً عن التركيبة الإثنيّة-الدينية للسكّان.35 هذا إضافةً إلى أن طبيعة نظرة السكّان المحليين إلى كل وحدة عراقية، يؤثّر في تلاحم أو تفكّك هذه الوحدة، خصوصاً في غياب قيادة فعّالة.
الوحدات الإثنية الخالصة لاتطوّر فقط إطلالةً وطنية محدودة، بل تتأثر أيضاً بالنفوذ الطائفي السياسي. ويُقال إن الفرقة الثامنة ذات الأكثريّة الشيعيّة تتأثّر بحزب الدعوة التابع للمالكي، والفرقة الرابعة تتأثر بحزب الاتحاد الوطني الكردستاني بقيادة الرئيس العراقي السابق جلال طالباني، والفرقة السابعة تتأثر بالحزب السنّي العراقي التابع لحزب صحوة العراق، والفرقة الخامسة تابعة للمجلس الأعلى الإسلامي العراقي.36 والجدير بالذكر أن الوحدات التابعة لهذه الفرق تحمل بوضوح رايات وشعارات شيعية وسنّية وعربية وكردية.37 وكانت الاستثناءات الوحيدة لأسلوب التجنيد المحلّي في الفرقتين الثانية والرابعة واللتين تتكوّنان من 50 إلى 80 في المئة من الأكراد، واللتين كان يتم تحريكهما أكثر من أي وحدة أخرى.38
جادل كلا المالكي وبابكر زيباري، الذي كان آنذاك رئيس الأركان الكردي، ضدّ انتشار القوّات ذات الغالبية الكرديّة في البلاد، على الرغم من أن لكلٍّ منهما أسبابه الخاصّة. أراد المالكي أساساً، تجنّب الوحدات التي تتشكّل فقط من الأكراد، والتي يمكن أن تخدم في مابعد كحجرٍ أساس لجيش كردي مستقل، بينما كان اهتمام الزيباري الأكبر يكمن في التماسك العسكري.39 وقد اقترح رئيس الأركان مايلي: "ينبغي ألاّ نطبق مبدأ "أهل المنطقة في المنطقة" بشكل مفرط، لأنها لاتتوافق مع فكرة الجيش الوطني. أنا أؤيد حلاً وسطاً: نحن بحاجة في كل محافظة إلى توازن معيّن بين العناصر المجندين محلياً وأولئك القادمين من مناطق أخرى بغية ضمان التوازن بين المركز والأطراف".40
أخيراً، لم يكن الدعم السياسي القوي للجيش العراقي كمؤسّسة وطنية واضحاً. وعلى الرغم من أن أهميّة الجيش الوطني واضحة للكثيرين، تمّ التعتيم على البيانات التي تمتدح الجيش أو تدافع عنه في 6 كانون الثاني/يناير وهو يوم الجيش، وذلك قبل هجوم تنظيم "داعش" في صيف العام 2014. وفي بيئة طائفية حادّة، ثمّة غياب لكل من السرديّة الأوسع للوطنية العراقية وللمديح الخاص بالقوات المسلّحة العسكريّة كمؤسّسة عراقية شاملة للجميع. هذا على الرغم من أن كليهما مستخدمان، وإن لفظياً، في لبنان الأكثر تعدّدية.41
لاتقتصر المشكلة الأساسية على القوات المسلّحة وحسب، بل تعود إلى طريقة تعاطي العراقيين مع دولة مابعد العام 2003. فلا يهمّ السياسيين الأكراد وجود جيش عراقي وطني لأن هدفهم بعيد المدى هو الاستقلال. ولايزال السياسيون السنّة يعانون من نظام سياسي لايعاملهم على قدم المساواة، كما يعانون من كيفيّة التعبير عن معارضتهم وكيفية التفاوض حول إدخال تحسينات فيها. أمّا السياسيون الشيعة فهم على دراية بأن هيمنتهم العددية تضمن لهم الغالبية إن هم واصلوا مخاطبة الحسّ الطائفي.42
هذا الأمر لايعني أن الوطنية غير موجودة في العراق. فقد طرح الحزب السياسي "العراقية" نفسه كحزبٍ وطني وحصد عدداً كبيراً من الأصوات، وتخطّى العدد الذي حصده ائتلاف المالكي خلال انتخابات العام 2010 بمعدل 24.7 في المئة.43 غير أن الطائفية هي التي حدّدت ماهيّة الدولة العراقية. بالنسبة إلى الجيش العراقي، أضعفت الطائفية الحافز على القتال. ولتفسير منطق بعض العسكريين الذين أبوا القتال ضدّ تنظيم "داعش"، نُقل كلام عن عقيد من الفرقة الثانية قوله "لاأحد يريد الموت لسببٍ لايؤمن به."44 غياب الثقة داخل المؤسسة العسكرية يقف عائقاً أمام تأسيس قوّة وطنية فعّالة.
خاتمة
بعد مرور سنة على سيطرة تنظيم "داعش" على الموصل في حزيران/يونيو 2014، أصدر البرلمان العراقي تقريراً جاء فيه أن ثلاثين عسكرياً من ذوي الرتب العالية كانوا المسؤولين الرئيسين عن فشل الجيش في صدّ الاعتداء. ومن بين المسؤولين الذين كانوا ينتظرون موعد المحاكمة في أيلول/سبتمبر2015، رئيس الحكومة السابق المالكي، ومحافظ نينوى (والموصل عاصمتها)، ووزير الدفاع السابق سعدون الدليمي، ووزير الخارجية زيباري ونائبه، وقائد القوات البرّية العراقية، وقائد عمليات نينوى. ويعترف التقرير أن الدفاع هو مسؤولية مشتركة، وأن الخطوات التأديبية يجب، تبعاً لذلك، أن تتجاوز مجرّد حفنة من الضبّاط.
كان صدور هذا التقرير الخطوة الأخيرة التي اتُّخذت لإصلاح النظام السياسي في العراق وبالأخص قطاع الدفاع. فقد سُرّح مايفوق 300 عسكري من الخدمة في وزارة الدفاع والقوات المسلّحة بسبب التقصير بواجبهم في صيف العام 2014. هذا في حين تمّت مسامحة الضبّاط الفارّين من الرتب الأدنى بشرط عودتهم إلى الخدمة. وجرى إلغاء مكتب القائد العام وبدأت حملة تندّد بالفساد، واستؤنفت جهود التدريب الأميركية على نطاقٍ واسع.45
وعند تسنُّمه منصب رئيس الوزراء في أيلول/سبتمبر 2014، أطلق حيدر العبادي إصلاحات إضافية شملت هيكلية حكومية لامركزية، ومكافحة الفساد، وإلغاء المناصب العديدة لنوّاب الرئيس، وإعلان نهاية الطائفية السياسية. وإذا ماتمّ تطبيق هذه الإصلاحات، فإنها ستقطع شوطاً كبيراً لتحسين العلاقات المدنية-العسكرية في العراق. ويمكن لبرلمان نافذ ووزارة الدفاع أن يعملا على ضمان أن تكون القوات المسلّحة تحت السيطرة المدنيّة. كما أنّ وضع حدّ للطائفية والكوتا الحزبية، قد يحسّن أيضاً الاحترافية العسكرية. والأهم أن الإصلاحات لن تكتفي فقط في إعادة تأهيل صورة الجيش العراقي الجديد، بل قد تُصلح أيضاً كيفية تعاطي العراقيين مع دولتهم ككل.
فلورنس غاوب محلّلة بارزة في "معهد الاتحاد الأوروبي للدراسات الأمنية".