لم تكن دعوته إلى نبذ العنف نتيجة الحرب الهوجاء التي عصفت بسورية منذ أربع سنوات، ولم يكن نضاله السلميّ ودعواته المتكررة إلى السلام تكتيكاً لتجاوز مرحلة، أو الدفاع عن نظام سياسي قائم في زمن ما. لقد كان قناعة في المبدأ والمنتهى؛ قناعة متأصلة في فكره، مؤصّلة في مرجعياته الدينية، موثقة في كتبه التي ألّفها. ذلك هو المفكر السوري المعاصر جودت سعيد، رائد النضال السلمي ضدّ العنف، والداعية إلى الاعتدال الفكري، وصاحب مذهب ابن الإنسان الذي بسطه في كتابه «مذهب ابن آدم الأول» لصياغة مفهوم إسلامي لاعنفي معاصر.
ولد جودت سعيد في الجولان السوري العام 1931، تابع دراسته في الأزهر الشريف بمصر إذ أتمّ هناك المرحلة الثانوية، والتحق بكلية اللغة العربية، ليحصل على إجازة في اللغة العربية منها. واغتنم فرصة وجوده في مصر ليتعرف إلى مالك بن نبي، سواء من خلال كتاب «شروط النهضة»، أو من خلال اللقاء به شخصيّاً قبل مغادرة مصر نهائياًّ.
حين عاد إلى سورية اتجه كغيره من الشباب لتأدية الخدمة العسكرية، لكن وقع فصله؛ لأنه رفض المشاركة في أي تحرّك عسكري، بحكم قناعته بأن العنف والحرب لا يؤديان إلا إلى الخراب. عاد ليشتغل بالتدريس معلمًا للغة العربية، لكن نشاطه الفكري ومعارضته دفعا إلى اعتقاله، ثمّ تمَّ اتخاذ قرار بصرفه من عمله في نهاية الستينات. وواصل نشاطه الفكري والثقافي، ولايزال متابعاً للتطورات والنقاشات في الساحة العربية والإسلامية والعالمية وهو في العقد التاسع من عمره.
يعرف جودت سعيد بأنه غاندي العالم العربي؛ كونه داعية للاعنف، وقد عبر عن سعادته بهذا الوصف في مناسبات عدة، وكان أول ما كتبه في مطلع الستينات من القرن العشرين كتابه «مذهب ابن آدم الأول، أو مشكلة العنف في العمل الإسلامي» إذ اتجهت أفكاره إلى رفض العنف والتطرف، وطرح مبدأ اللاعنف بديلاً وسعى إلى تجذيره في الفكر الإسلامي من خلال التفكير العميق في قصة ابني آدم الواردة في القرآن الكريم وخاصة في جانب رفض هابيل الرد على عنف أخيه قابيل أو حتى الدفاع عن نفسه. وفي ذلك يتجلى مذهب ابن آدم الأول: مذهب اللاعنف، مذهب السلام. وهكذا برأيه فإنّ التاريخ الإنساني لم يكن بالقتل أو بالجريمة، وإنِّما كان بِخيار إنساني، فكان اللاعنف، ورفض القتل وسفك الدماء، وعدم الدفاع عن النفس بالعنف، وهو مذهب دأب عليه جميع الأنبياء بحسب جودت سعيد إذ قاوموا الشرّ والظلم الذي نزل عليهم بالصبر والدعوة إلى الحوار ورفضوا الردّ على الأذى.
يستند الكاتب إلى قوله تعالى: «إنَّ اللهَ لا يُغيّرُ ما بِقومٍ حتَّى يُغيّروا ما بِأنفُسِهِمْ» (الرعد: 11)، في فهم أولوية التغيير الخاص بالنفس على أي تغيير آخر من أجل حل العديد من المشاكل؛ ومن أجمل ما قال، في سياق متصل بما عليه بعض شبابنا ممن اختار عن وعي أو دون وعي طريق التشدد والعنف، قوله في آخر كتابه: «كم من حقائق قرآنية أولية بسيطة على مسمع كل أحد في قارعة الطريق! ولكن مع هذا كله لا ينتبه إليها منتبه! وكم من المصائب التي تسد علينا منافذ الحياة تنشأ عن هذا النسيان وعدم الانتباه! وكم من الآلاف المؤلفة من الشباب يصابون بخيبة أمل، أو بخلخلة في ثقتهم بجدية المنهج الديني حين يكشفون الحقيقة؛ لأنهم يعيشون على الوهم متقوقعين! ثم كم من الشباب يصابون بالشك في الدين إطلاقاً، ويظهر عليهم آثار ذلك بأساليب مختلفة، لكل موسم ما يناسبه، وليس آخرها أصحاب الشعور الطويلة الذين يملأون الأسواق… إنه الامتلاء بالأوهام. أجل إنها مشكلة مجتمع، مشكلة جيل ضائع متخم بالأوهام...».
تقوم دعوة جودت سعيد بالأساس على التمسك بالعقل والابتعاد عن التفسير الجامد للنصوص المكتوبة. كما نادى إلى عدم تقديس الفتاوى القديمة الصادرة في سياقات مختلفة عمّا نحن فيه، وحمّل رجال التعليم ورجال الدين مسئولية بناء أجيال مؤمنة بخيار السلام. ومن أجمل ما قال في نبذ العنف: «إنّ الحروب قرابين البشرية، والقتل لم يكن يومًا حلّاً لمشكلة متفاقمة كما يعلمنا درسُ التاريخ». فهل من مستجيب!
إقرأ أيضا لـ "سليم مصطفى بودبوس"العدد 4876 - الثلثاء 12 يناير 2016م الموافق 02 ربيع الثاني 1437هـ