في تسعينات القرن الماضي علمت أن إحدى الجمعيات الدينية المحلية أنشأت لجنة وصل لكفالة أيتام شهداء فلسطينيين. فاخترت ثلاثة أطفال إخوة بعمر التاسعة والسابعة وثلاث سنوات من خلال استمارات جاهزة لأغراض التبرع، أعدتها الجمعية بصور الأطفال ومعلومات عن عائلاتهم.
كان المبلغ المطلوب 15 ديناراً بحرينيّاً شهريّاً لكل طفل يتم تحويله مصرفيّاً بشكل آلي لحساب الجمعية التي كان يُفترض أن تتولى توصيله إلى العائلة الفلسطينية، مع وعد بإعطائي بيانات التواصل مع العائلة.
وكانت المبالغ تقتطع بانتظام لكنني لم أتمكن من التواصل مع العائلة، وكان المسئول في الجمعية يطمئنني إلى أن «المبالغ تصل إلى العائلة وأنهم (الجمعية) يتواصلون مع العائلة التي تشكرني على التبرع، وأنه سيتم إعطائي لاحقاً رقماً للتواصل مع العائلة، والتأكد بنفسي مما كان يقول».
بعد عامين نبّهت ذلك المسئول في الجمعية بأنني سأوقف السحب من حسابي المصرفي إذا لم يرسل لي فوراً رقم التواصل مع العائلة الفلسطينية، وفعلت؛ لأني لم أحصل منه سوى على تأكيدات شفهية منه بهذا الشأن على مدى تلك الفترة. وبعد أسابيع قرأت إعلاناً في الصحف المحلية عن قطع علاقة الجمعية نفسها مع المسئول عن التبرعات إلى الخارج وذلك بسبب فساده وسرقته من أموال التبرعات. ما يعني أن الأموال التي جمعها مني ومن غيري لم تعرف طريقها إلا لجيبه. وعلى رغم أن فساد شخص لا يعني اتهام الجمعية أو الجمعيات المشابهة لنشاطها، بكاملها بالفساد، وسرقة أموال المتبرعين، فإنه يعني أيضاً إهمالها متابعة أموال المتبرعين لمدة عامين على الأقل (بحسب حالتي) ولا يعفيها من هذه المسئولية وما لحق بها من سوء سمعة في نظر من مسّهم سلوك مسئولها، وبالجمعيات ذات النشاط المشابه، أو نشاطات التبرع بشكل عام.
ما ذكّرني بهذه الحادثة، التي لم أتمكن من تجاوزها حتى بعد مرور نحو عقدين على حدوثها، هو خبر نُشر مؤخراً عن صدور تقرير عن مؤشر للعطاء (Giving Index) عن مؤسسة بريطانية تحمل اسم «مؤسسة المساعدات الخيرية البريطانية»، ويعتمد قياس هذا المؤشر على ثلاثة محاور، هي التبرعات، وتقديم المساعدة إلى الآخرين، والوقت المخصص للعمل التطوعي. وصنّفت البحرين بأنها الأولى عربيّاً و13 على مستوى المؤشر العام، كما تصدّرت الدول العربية في المؤشر الفرعي المتعلّق بالوقت المخصص للعمل التطوعي، وجاءت في الترتيب 36 عالميًّا. وحصلت على المرتبة الثانية عربيّاً في مؤشر التبرعات الفرعي والترتيب 27 عالميّاً.
ولابد من أن يقع هذا الخبر الإيجابي موقعاً حسناً في النفس وخصوصاً في هذا الوقت الذي يتفشى الشعور بالتراجع المجتمعي من زوايا مختلفة بصورة ليست بحاجة إلى أرقام للتدليل عليه. فالتبرع ومساعدة الآخرين يعتبران سلوكاً إنسانيّاً راقياً يعبّر عن تحلّي القائمين به بقيم عالية تهتم برفع المعاناة والعسر عن الآخرين، سواء بشكل شخصي أو عن طريق حملات منظمة. وحتى على الصعيد الدولي فإنه يتم تخصيص برامج للمساعدات تتدفق من خلالها التبرعات من الاقتصادات والمجتمعات الغنية إلى الاقتصادات والمجتمعات الأقل حظّاً في محاولة لتقليل فجوة مستوى المعيشة بين الاثنين من أجل حياة أفضل.
هذا هو المعنى الإنساني البسيط للعطاء، أو لعمل الخير، كما تحث عليه القيم الإنسانية والأديان. فالتبرع لعمل الخير بمعناه المجرّد هو ما يتم تقديمه بأية صورة لمساعدة إنسان آخر بصرف النظر عن أصله ولونه ولغته ودينه وفئته الاجتماعية وموقعه الجغرافي وخلفيته التاريخية الآتي منها. وحتى يكون الغرض إنسانيّاً بحتاً، على المتبرِّع أن يُنزّه تبرعه عن أية مصلحة أو كسب عدا الشعور بالرضا الذي وحده تتجاوز قيمته للمتبرِّع، أية قيمة مادية نقدية أو عينية أخرى تخلّى عنها من أجل ذلك الشعور.
أما التبرع من أجل دعم فكرة يعتقد صاحبها أنها لخير الآخرين أو من أجل مُعتقد يرى أن نشره هو ما يحقق الخير للأمة، فهو يلغي الهدف الإنساني من التبرع ويجعله خالصاً من أجل مصلحة تلك الفكرة، وذلك المعتقد والمنتمين إليه، ولا يمكن مساواته بأي شكل من الأشكال مع ذلك التبرع الذي أُنفق من أجل الإنسان، والإنسان فقط مهما يكن انتماؤه الدنيوي.
ولذلك، فإن المعايير التي تتبعها مؤشرات قياس العطاء يجب أن يسبقها أولاً تعريف العطاء والأغراض التي قُدِّم من أجلها، وما وراء هذه الأغراض.
مؤشر العطاء الأخير لاحظ - بحسب ما نشر في موقع «سي إن إن» عنه- أن دور الدين في ثقافة كل دولة يفوق دور الرخاء الاقتصادي في حفز السكان للتبرع، بدليل أن قائمة أكبر المتبرعين العشرين في العالم بها 5 دول فقط من أغنى دول العالم. ويؤكد ذلك حصول كل من أميركا ومينمار على الترتيب الأول في قائمة المتبرعين على رغم التفاوت بين الاثنين، فالناتج المحلي لكل فرد في بورما يعادل 4,800 دولار وهو يقل عن 10 في المئة من مثيله في أميركا الذي يصل إلى 54,4 ألف دولار بحسب (2015 CIA fact Book).
إلا أن دخول الدين في مصفوفة العوامل التي تؤثر في حجم ونوع التبرع يزيد الأمر تعقيداً، فالديانات التي تحث على الصدقة والزكاة تدعو إلى هذا العمل سرّاً حفاظاً على كرامة المتلقي. ففي حين جاء في اليهودية «طوبى للذي ينظر للمسكين» (مزمور 41:1) فإن الإسلام حث على سرية العطاء في الآيه الكريمة «إن تبدو الصدقات فنعمّا هي وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم» (البقرة: 271) وفي المسيحية «أما أنت فمتى صنعت صدقة فلا تعرف شمالك ما تفعل يمينك. لكي تكون صدقتك في الخفاء» (متى 6:3-4). وبذلك يصبح العطاء بتسمياته الدينية المختلفة غير ممثل في مؤشرات العطاء بالشكل اللازم إذ يفضل المتدينون أن يقوموا به سرّاً، على رغم أنه في صورته تلك هو الأقرب إلى المعنى الإنساني للعطاء.
ومن ناحية أخرى، فإنه و على رغم أهمية وجود المؤسسات والمنظمات الأهلية التي تقوم بدور حلقة الوصل بين المتبرع والمحتاج لهذا التبرع وخصوصاً إذا ما كان هذا المحتاج خارج الحدود، فإن انتشار هذه المؤسسات بكثرة وأخذها الريادة من المؤسسات الحكومية في توجيه المساعدات، يفرض ضرورة الرقابة - من قِبل المتبرعين، ربما - وخصوصاً في ظل الأزمات والحروب التي نشهدها والتي تتخذ أطرافها من الأفكار والأديان بمذاهبها ذريعة لتحقيق أهداف ومصالح سياسية والتي تذهب هذه التبرعات لـ «ضحاياها».
فإذا كان فساد مسئول التبرعات في الجمعية الدينية التي ذكرت في بداية الحديث، لا يتجاوز تضييعه فرصة استفادة محتاجين محتملين للصدقات التي ذهبت إلى جيبه، فإن توجيه العطاء إلى أغراض غير إنسانية بحتة، سواء بشكل مباشر أو غير مباشر من شأنه أن ينحرف بالعطاء ويتجاوز ضرر ذلك، حرمان المستحقين منه إلى أضرار استخدامه كوقود لحروب الصراع على السلطة، ويذهب مال الصدقة إلى إيقاع الأذى، وتدمير البشرية بدلاً من تنميتها ورفع المعاناة عنها.
إقرأ أيضا لـ "هناء بوحجي "العدد 4876 - الثلثاء 12 يناير 2016م الموافق 02 ربيع الثاني 1437هـ