إن تكتب رأياً نقدياً خارج عباءة ملتك وطائفتك وحتى حزبك السياسي، فأنت تسلك درباً محفوفاً بالمخاطر والإلغام، فما بالك إن تناولت بالتفكيك والتشريح تجربة سجالية كتجربة «الست نظيرة جنبلاط» في ظروف مثيرة للجدل، حتماً ذلك يتطلب عدةٌ دبلوماسية وأمانة علمية تؤهلك لاجتياز الحقول الملغمة.
هذا ما فعله الأكاديمي «شوكت إشتي» في كتابه «الستّ نظيرة جنبلاط من حدود العائلة إلى ربوع الوطن، دار النهار: بيروت، 2015»، حيث درس تجربة شخصية «نظيرة» كـ «ظاهرة خارجة عن سياقها التاريخيّ المجتمعيّ أو كسابقة غير معهودة في موقعها ودورها ومركزها، فالتجربة ليست عادية أو تقليدية في بعدها المنهجي والسردي وأنت بصدد بحث أكاديمي رصين يتداخل فيه التاريخ السياسي بالاجتماعي عبر تحديد إشكالية الدراسة بما تتضمنه تجربة «نظيرة» من موقع ونفوذ وسلطة في ظل بيئة اجتماعية محافظة ومجتمع ذكوري بامتياز، وكيفية تسليم المرجعيات الروحية بزعامتها.
من تساؤلات أساسية تتعلق بطبيعة التجربة، ركز المؤلف إطلالته على التناقض بين التجديد والتجميد، وبين التحديث والتقليد في النظرة إلى المرأة وإلى موقعها ودورها في المجتمع، ومن كون حضورها ومشاركتها في الشأن العام مقبول حالياً، إلا أنه لم يكن مقبولاً أو معترفاً به في تراثنا الثقافي والاجتماعي والسياسي، بل إن السياسة برأيه تقليدياً كانت مجالاً ذكورياً بامتياز، وتكاد المشاركة السياسية للمرأة معدومة، وزعامة العائلة الجنبلاطية كغيرها من الزعامات الإقطاعية التقليدية لم يكن فيها للمرأة حضورٌ أو موقع، وبالتالي فبروز ظاهرة نسائية مغايرة للسائد يحفز على دراستها والتعرّف على تجربتها وتطورها، بالاستناد إلى منهجية التحليل العامودي للشخصية ودورها فترة الانتداب دون اتباع التسلسل الزمني التقليدي للأحداث.
يتمحور البحث حول الواقع التاريخي للتركيبة القبلية والعائلية للزعامة السياسية الجنبلاطية كنموذج للسائد في لبنان ولصراعات الزعامات السياسية داخل الطائفة والعائلة والتنافس بين أفرادها، ولارتباطهم بالخارج وسعيهم لكسب وده وتأييده، في الإطار يناقش حضور المرأة ومشاركتها السياسية عبر البنى السائدة والمهام التقليدية للزعامة السياسية ومحاولة المحافظة عليها، إلى جانب تجاوز الموقع التقليدي المحدّد للزعامة عبر إرساء فكر سياسي خارج المتعارف عليه وما يخلفه ذلك من إشكالية يقع فيها «كمال جنبلاط» مع والداته «الستّ».
في السرد يتناول المؤلف سيرة «الستّ نظيرة» زوجة «فؤاد جنبلاط»، مدير منطقة الشوف الكبرى منذ زمن العثمانيّين في 1906، والذي أحدث تعيينه قائمقام من الفرنسيين عام 1919 شرخاً وخلافاً داخل العائلة الجنبلاطيّة بسبب خلافات الولاء السياسي وعلاقاتهم مع قناصل الدول، لِمَ لا وقد كان معظم الدورز في جبل لبنان موالين لبريطانيا رغم ولائهم التقليدي للدولة العثمانية، في هذا الصدد يذكر: «كانت علاقة الطوائف بالدول الأجنبية ظاهرة مألوفة وتقليداً متبعاً وقد تقاسمتها وتحولت كل منها إلى محميّة، لقنصلية دولة معينة تقوم برعايتها وتتعهدها بالحماية وتكون مرجعها السياسي ومرشداً لها في قضايا البلد وشئونه (الموارنة لفرنسا، الأرثوذكس لروسيا، الدوروز لبريطانيا)»، وهذا بالطبع ما عزز الفتن الطائفية.
تأنيث الزعامة
جاء اغتيال «فؤاد جنبلاط» عام 1921 في مرحلة وطنية وطائفية دقيقة ومفصليَّة فائقة الصعوبة، حيث عمت الاضطرابات ضد الوجود الفرنسي وتفاقمت الخلافات العائلية خصوصاً بعد موت عمه نسيب، وابتعاد ابن عمه علي عن السياسة؛ ولأن وريث الزعامة «كمال جنبلاط» كان قاصراً في الرابعة من عمره، ومع إعلان الثورة السورية الكبرى بقيادة «سلطان باشا الأطرش» وتداعياتها على لبنان، برزت شخصية «الستّ نظيرة» زوجة فؤاد بثباتِها واستثنائيَّتِها في التعامل مع الأحداث، فكل ذلك أدى إلى «تأنيثْ الزعامة» الجنبلاطيَّة، وغَدَتْ سيدةَ «قصر المختارة» طيلة فترة الانتداب الفرنسية لينكسرّ بذلك تقليد التوريثِ السياسيّ وذكورية الزعامة، فتوريث الزعامة في البيوتات السياسية مسألة بديهية وطبيعية في الاجتماع السياسي اللبناني، لكن المثير للجدل يكمن في الشخص الذي انتقلت إليه الزعامة، وليس في توريثها، يقول «إشتي».
هنا ثمة استدراك للمؤلف «بأن التأييد الفرنسي «لزعامة الستّ» لا يدخل في موضوع دعم مشاركة المرأة في الشأن العام أو تحسين موقعها في المجتمع أو تغيير النظرة المجتمعية تجاهها، بل يندرج في مجرى السياسة الفرنسية لحماية مصالحها وتدعيم انتدابها»، في السياق يفسر أبرز خصائص شخصية «نظيرة» وطريقة أدائها السياسي واحترامها للوسط الاجتماعي وقدرتها على التحشيد الجماهيري والتواصل مع الناس بالاعتماد على المقربين وتوزيع الأدوار وبما ترافق مع مرونتها السياسية ومحافظتها على الاستقرار الأمني والاجتماعي والسياسي، فهذا الأداء السياسي كما يستنتج «استند إلى قاعدتين هما؛ الاعتماد على نمط سلطوي أساسه التقاليد الإقطاعية وعدم المسّ بركائز السلطة الإقطاعية شكلاً ومضموناً أو التعرض لمنطلقاتها وقيمها وعاداتها وذهنيتها وعلاقاتها وسلوكياتها، الأمر الذي كرسها نموذجاً «أنثوياً» لا يختلف في الجوهر عما كان سائداً فهي «ابنة» مرحلتها التاريخية، أما القاعدة الثانية، فكانت الاعتماد على العلاقة مع الفرنسيين التي جعلت نهجها أكثر التباساً في تجربتها السياسية». كيف؟
يقول: «لقد أثار خيارها السياسي المتعاطف مع الفرنسيين والالتزام بسياساتهم إضافة لموقفها السلبي تجاه ثورة «سلطان باشا الأطرش» الكثير من الجدل، إذ فسر بأنه تعبير عن ولائها للفرنسيين، فتعرضت للتخوين والتهديد وبقيت الصورة مشوّشة تجاه سياستها». تنوعت التبريرات إزاء سلوكها السياسي، فمنهم من فسّره بالتصرّف البراغماتي مع الانتداب، ومنهم من وجده «خدمة للغرضية» حيث تتداخل المصالح الذاتية بالمصلحة العامة أو بسبب الانقسام المجتمعي وإشكالية العلاقات الدرزية-المارونية ورغبتها في إبعاد جبل لبنان عن الفتن الطائفية، لكن «مناوراتها الاضطرارية» بحسب أحد المؤرخين كانت محط ارتياب بها وبسياستها إلى حد العداء لها من بعض العائلات الدرزية التي اتهمتها بخيانة مصالح الدروز، وبالتالي لم يكن مستغرباً أن يتولد اتجاه معاكس في بيتها يبرز في التباين بينها وبين ابنها «كمال».
الأم موالاة، والابن معارضة
إن مجالات التمايز «بين زعامة الأم» و «زعامة الابن» كما يوضحها المؤلف تكمن بين تجربتين تبدوان متعارضتين في بعض المظاهر، فالمتوقع أن يسير الخلف على خطى السلف بحسب المتعارف عليه في العائلات الإقطاعية التقليدية، إلا أن التحول الجذري في التوجه السياسي لـ «كمال جنبلاط» لجهة مفهوم السياسة وأطرها وآفاقها الاجتماعية والإنسانية أبرز معارضة الوالدة ورفضها لتوجهاته وخياراته الفكرية والسياسية والاجتماعية التي وضعته عملياً على «الطريق المعاكس» للسائد وقتها، فالسياسة التي ورثها بعمقها التقليدي وأفقها المحدود والمحدد سلفاً، كانت إقطاعية عائلية، عشائرية، مذهبية، وإن ضمّت بين أتباعها ومحازبيها بعضاً من مسيحيّ الجبل اللبناني.
إن الابن كما يشرح المؤلف بإسهاب لم يبقَ أسير هذه السياسة ولم يخضع لمنطقها أو ينحصر في أفقها المسدود، إذ أخذ مفهومه للسياسة منحى مغايراً لما ورثه، فأعطاها عمقاً إنسانياً، اجتماعياً وثقافياً جعله يتحول من زعيم درزي إلى زعيم وطني علمي، علماني وديمقراطي، حيث تبلورت السياسة عنده كمسلك ضمن أفكار الديمقراطية والعروبة والقضية القومية العربية وسعيه لترجمة هذه الخيارات إلى عمل مباشر، ففي حين تميل الستّ إلى المولاة، كان ابنها في صلب المعارضة، هي تتسم «بالليونة» وهو يتصف بالتحدي والمواجهة، لاسيما حين ربط معارضته بتحالفات ومضامين وتعابير غير مألوفة عندها وخارج قاموسها السياسي، كان مشحوناً بميول «اشتراكية» وأفكار حالمة بمجتمع تتحقق فيه العدالة والمساواة وهذا ما قاده لتأسيس «الحزب التقدمي الاشتراكي» الذي لم يلغِ الحزبية الجنبلاطية شكلاً ومضموناً، إنما عززها وزناً وحجماً ودوراً في معادلة التركيبة الطائفية.
الخلاصة التي توصل إليها، بأن تجربة «نظيرة جنبلاط» رغم أهميتها، تؤكد صعوبة حصول أي تحوّل في البنية المجتمعية في إطار خط «محافظ»، لأن النزعة المحافظة ترفض أساساً، ومن حيث المبدأ كل تحوّل جوهري في النظام القائم وعلاقاته، فلا يفيد تبديل الوضعية طالما أن الهدف كان ولايزال يخدم منظومة القيم والتقاليد، وعلاقات الإنتاج السائدة والمحافظة دون أي تطوير.
إقرأ أيضا لـ "منى عباس فضل"العدد 4875 - الإثنين 11 يناير 2016م الموافق 01 ربيع الثاني 1437هـ
كسر الروتين والخروج على ما هو سائد .. والعمل الصالح الرامي الى التغير الشرعي كما ورد في القرآن والسنة النبوية .. في قوله .. ان الله لا يغير ما بقوم ... صدق الله العظيم .. .... .. استغفر الله العظيم