يأخذنا تقرير المحرِّرة الأدبية في صحيفة «نيويورك تايمز»، ميتشيكو كاكوتاني، والذي نُشر يوم الاثنين (4 يناير/ كانون الثاني 2016)، في تناولها كتاب الروائي البريطاني جوليان بارنز: «إبقاء العين مفتوحة»، إلى القدرة التي يتمتع بها في تجواله بين أعمال عدد من الرسَّامين العالميين. ووصفت جانباً من تلك القدرة بأنها لوحات فنية تساوي ألف كلمة - مجازاً - بقدرته على الرسْم بالكلمات، آخذاً القارئ في جولة بانورامية بين المدارس الفنية على اختلاف رؤاها ونظرها. الكتاب الجديد تربطه علاقة ما بكتابه الأسبق «ببغاء فلوبير»، الرواية التي تلاحق نتفاً تتعلق بصاحب رواية «مدام بوفاري»، جوستاف فلوبير. هنا أجزاء منتخبة من ذلك التقرير، مع هوامش تعريفية اقتضتها الضرورة.
غوستاف فلوبير (روائي فرنسي، ولد في 12 ديسمبر/ كانون الأول 1821، وتوفي في 8 مايو/ أيار 1880، أول مؤلف مشهور له «التربية العاطفية»، و «مدام بوفاري» التي أصدرها في العام 1857)، هو الموضوع السحري لرواية وسيرة حياة وتأمُّل الروائي البريطاني حائز جائزة «البوكر» للعام 2011 جوليان بارنز عن روايته «الاحساس بالنهاية» (The Sense of an Ending).
في روايته «ببغاء فلوبير»، التي تتناول قصة طبيب أرمل متقاعد (جيفري بريثويت) ومن خلال تداعيات الرواية يضطر للذهاب إلى مدينة رودن الفرنسية، منتقلاً إلى أكثر من مكان بحثاً عن نُتَف تتعلق بصاحب الرواية الأشهر «مدام بوفاري»، التي صدرت في العام 1857 وتمتاز بواقعيتها وروعة أسلوبها، وتُعدُّ أول رواية واقعية، إنه جوستاف فلوبير. من بين خيوط الرواية أن جيفري يقرأ في إحدى الصحف خبراً عن متحف يعرض ببغاء محنطاً كان الروائي فلوبير اعتاد أن يضعه على مكتبه وهو في مراحل كتابة قصته «قلب طاهر»، والذي كان من ضمن شخصيات القصة.
اللوحة لا تحتاج شرْحاً
جادل بارنز بأن اللوحات الكبيرة ليس مطلوباً منها أن تقدِّم شرحاً مكتوباً، كما يوضح في إصداره الجديد «إبقاء العين مفتوحة»، وهو عبارة عن أضواء متعددة لمجموعة من المقالات عن الفن. وبحسب قوله «نبقى مخلوقات لفظية لا سبيل إلى تقويمها، تلك التي تحب شرح الأشياء وتفسيرها. ضعنا أمام صورة وسنتبادل الثرثرة حولها، كل على طريقته المختلفة».
يكتب بارنز بأسلوب فهم بسيط عن التوتر في موضوعات شتى تتوزع بين الحياة والفن وبالكيمياء الغريبة لمخيَّلة روائي موهوب، ولعينه دور في التقاط التفاصيل، تلك التي يحملنا إليها عبْر القصص وحدسه السردي وفهمه للعملية الإبداعية لمساعدتنا على رؤية فنانين مألوفين مثل: ديغا، براك وماغريت. رؤيتهم من جديد، كما يضعنا أمام جانب أسلوبي في نسقه الداخلي الجميل لدى إدوارد فويلارد... الصور المختزلة المكثفة... الجانب النفسي للرجال والنساء في أعمال المصوّر والرسَّام والكاتب السويسري الأصل فيليكس فالوتون، المتأثِّر بأعمال فان غوغ وغوغان والفنانين الرمزيين، وهو أيضاً عضو في جماعة النابيين (الأنبياء)، وتضم مجموعة من المصوّرين الفرنسيين منهم: بيير بونارن إدوار فويلار وموريس دُني وبول سيروزييه، وكانوا متأثرين برمزية غوغان والألوان الصافية والمساحات المسطحة ذات النـزعة التجريدية؛ علاوة اللوحات الساخنة لهوارد هودجكين، تلك التي تبدو محروقة بتقنية استخدامه للألوان.
بذلك الفهم الواضح للتوتر ينقل بارنز أيضاً تقديره للتكنيك الذي عُرف به أولئك الفنانون. تعلُّموها ممن سبقهم وقاموا بتطويرها من خلال عمليتي التجريب والمصادفة في الوقت نفسه. وهو بذلك يضع جهد وحمولات تحفة (عمل فني) في سياق التاريخ الوظيفي والممارسة لدى مبدعها)، وتلك الوظيفية في العمل هي أكبر من كونها ضمن حيِّز محدود، بعيداً وبمعزل عن تاريخ الفن عموماً.
تأثير الشائعات على السيرة الذاتية
وفي حين يُحذِّر بارنز في مجموعة مقالاته، من المخاطر الناجمة عن السماح بتوريط القيل والقال في السيرة الذاتية؛ إذ لذلك تأثيره - من دون شك - على تفسيرنا ونظرنا وتلقِّينا للأعمال الفنية. كما يبدو ماهراً بالطريقة التي يضعنا أمامها في كشف أمزجة الفنانين، تلك التي تطال رؤاهم وأساليبهم في الأعمال الفنية. إن نظرته تتباين تجاه الأعمال التي لا تخلو من عجْرفة، وسيطرة على حال الهدوء في عيِّنات من أعمال بيكاسو؛ مع إشارته إلى الرابط بين إهمال لوسيان فرويد، والحياة غير الجديرة بالاعتماد عليها أو الثقة بها، مروراً ببعض لوحاته التي وصفها بأنها «باردة وقاسية»، تلك التي يطغى فيها حضور النساء.
يتمُّ في الكتاب اختيار الموضوعات بشكل تعسُّفي إلى حدٍّ ما، والنتيجة، في الغالب، يمكننا تحديدها بمعرفة أنها شذرات ناتجة عن مهام صحافية. ولكن إذا تم أخذها مجتمعة، فإنها تروي قصة الكيفية التي انتقل بها الفنانون (وغالبيتهم فرنسيون) من مرحلة المدرسة (الاتجاه) الرومانسية، مروراً بالواقعية ووصولاً إلى الحداثة. وهو بذلك يُثير القيَم المتغيِّرة التي نعلِّقها على هذا النوع من التحولات والانتقالات الكبرى، والتي لا تخلو من دهاء تكشَّف مع مرحلة السريالية... الساخرة في جانب من تضميناتها، مع تأكيد أن هؤلاء الرسَّامين إنما انطلقوا في أعمالهم من الواقع على الأرض، في حين يقوم بدراسة الديناميكية الغامضة بين مواهب الفنانين الفردية «وانبثاقها من الروح الثقافية للعصر».
يثير بارنز بإيجاز التناقضات التي جسَّدها الرسَّام الفرنسي ديلاكروا (فرديناند فيكتور أوجين ديلاكروا 1798-1863) عضو ذلك الجيل من الرومانسيين الفرنسيين، ومن أشهر لوحاته «الحرية تقود الشعب» والذي تأثر بشكسبير وبايرون)، إلا أنه احتفظ بالاحترام لفولتير وموتسارت، ذلك الذي «تحدَّث عن الفن» في بذخه، والعاطفة... العنف، وكذلك الفيض».
الاستمرارية التاريخية
يصف بارنز الترويح عن النفس لدى كوربيه (غوستاف كوربيه، فنان فرنسي ولد في العام 1819، وتوفي في العام 1877، وهو أحد روَّاد المدرسة الواقعية في الفن)، ليقول عنه إنه «رسَّام عظيم، ولكن عمله/ إنجازه فيه الكثير أيضاً من الدعاية الخطرة»، وقد يكون جيداً أنه يتحدّر من عائلة شعارها الصراخ العالي ومن ثم المضيّ في الطريق بشكل مستقيم ومباشر. ويبدو أنه يحاول أن يبلغ من التأثير مثلما جعل مانيه كوربيه نفسه يبدو وكأنه جزء من التقاليد، لذلك سيجعل بول سيزان (رسَّام فرنسي ولد في العام 1839 وتوفي في 1906. مارس التصوير في الهواء الطلْق على غرار زملائه من المدرسة الانطباعية، إلا أنه قام بنقل أحاسيسه التصويرية، في تراكيب جسمية وكتلية) من مانيه (إدوار مانيه، رسَّام فرنسي ولد في 23 يناير/ كانون الثاني 1832، وتوفي في 30 أبريل/ نيسان 1883. يعتبر أحد رواد المدرسة الانطباعية)، يشعر وكأنه جزء من الماضي المتقهقر بسرعة فائقة.
السرعة التي أحدثت تلك التغييرات ستُتيح إمكانية التقاط الأنفاس في وقت لاحق: بمدى سرعة الرسامين التعكيبيين والعديد ممن نهجوا نهجهم «تولى الأمر، مستوعباً ومفككاً إرث سيزان». وأضاف «من حيث يبدأ الفن الحديث يبدأ هو» كما كتب بارنز. اليوم، حيث أعماله تتصدَّر جدران المتاحف الكبرى، يظل حضوره ملائماً بسلاسة، في اتجاه ما أصبح جزءاً من الاستمرارية التاريخية.
قد لا يكون ما يقدِّمه بارنز هنا تحديداً، رؤى جديدة أو مُوحية، ولكن مناشدة واحدة يتضمَّنها كتابه «إبقاء العين مفتوحة»، تستحق الوقوف عندها، وهي أنه لا يكتب باعتباره عالماً، بل كهاو متعطش، ودارس بارع بقدرته على نقل الشعور عن طريق لمس لوحة، أو عن طريق ما يبدو أنه غبش عاطفي يكتنفها، وما تحمله من تضمين فلسفي أيضاً. من ورشة عمل كوربيه يلاحظ بارنز أن الفنان وهو يعمل على تصوير مشهد، ليس وهو في الأستوديو، كما هو عليه في الهواء الطلْق... المدى المفتوح؛ ما يعني أن كوربيه «كان يُنجز أكثر من مجرَّد إعادة إنتاج مشهد معروف، في عالم قائم، بل يعمد إلى خلق وتصوير المشهد نفسه من جديد».
كراهية ديغا للنساء
في فصل آخر، يُلاحظ بارنز في امتعاض، بأن الصور التي أنجزها سيزان، والذي رغَّب ذات مرة بنموذج كي يكون ثابتاً «مثل تفاحة»، فيما كانت تبدو نضرة «محكومة بالألوان والانسجام في ما بينها»، وليس تصوير «البشر الذين يفعلون الأمور العادية مثل الكلام، والضحك والتحرُّك».
ويمكن لبارنز أن يكون حاداً، حتى في عروجه للتعبير عن ذوقه في الفن. يكتب في هذا المقام إن الفنان الأميركي وارهول (آندي وارهول ولد في 6 أغسطس 1928، وتوفي في 22 فبراير/ شباط 1987) «مثله مثل فيرغي، هو بالأحرى مَلَكي في توجهه». ولكن، في اللبِّ مما يكتب، تبدو مقالاته مثل رسومات متحرِّكة كتبها بحرص، وبتقييم دقيق اضطلعت عليه العين، ومن وراء كل ذلك فيض من الحس العميق والسليم.
وقال، إنه يرفض تناولات النقاد التي تحكم على كراهية ديغا للنساء في أعماله (فنان فرنسي من رواد الحركة الانطباعية، وظهرت براعته في رسم راقصات الباليه. ولد في 19 يوليو/ تموز 1834، وتوفي في 27 سبتمبر/ أيلول 1917)، استناداً - على ما يبدو - إلى الشائعات التي تحدثت عن خلوِّ حياته من الحب.
وعلى رغم أن الكتاب يحتوي على الكثير من الرسوم التوضيحية، إلا أن هناك تمنيات لو أن بارنز أفاض في مناقشة وقراءة لوحات أُخَر. يكتب بأسلوبه عن كل تلك اللوحات والفنانين بشكل واضح، وتتسم التعليقات بذكاء، حتى تلك التي تطال التفاصيل الصغيرة المتعلقة بالضوء والفضاء واللون، بحيث نجد أنفسنا وكأننا نقرأ الكتاب من خلال الجهاز اللوحي أو جهاز الحاسب المحمول، محاولين غوْغَلة الصور (البحث عنها في غوغل) تلك المتعلقة بالأعمال التي تناولها ببلاغة ووصفها بحماسة.
تبقى الإشارة هنا إلى رواية بارنز، «الإحساس بالنهاية»، والتي فازت بجائزة «مان بوكر»، تتضمَّن موضوع الانتحار الذي لا تسبقه منغِّصات. علاقة الصداقة الملتبسة بتوظيف الرواية للماضي؛ حيث أنتوني ويستر يبحث عن إجابات بشأن علاقة تربطه بصديقه أدريان وحبيبته فرونيكا، وترتيبه الثالث في تلك العلاقة، ورفضه الالتزام بعلاقة حب طويلة المدى ومن ثم الانسحاب... وتحوُّل علاقة الحب تلك منه إلى صديقه أدريان، وانتحار الأخير.
تأخذنا تداعيات الرواية إلى والدة فرونيكا، ولم يمض زمن على وفاتها، حيث تترك رسالة فيها إرث منصوص عليه (500 جنيه ويوميات تركها أدريان قبل انتحاره). في الرواية دعوة إلى لملمة الذاكرة وبنائها.