لجوء نازحين ومرغمين إلى أماكن بالكاد تصلح لإقامة البشر، هربوا من الدمار والحرائق بعدما قصفوا بيوتهم ، ناموا في الشوارع وباتوا يلتحفون السماء، هم بشرٌ مثلي ومثلك وجدوا أنفسهم بين عشيةٍ وضحاها يعيشون في المجهول، وفي أماكن غير إنسانية لغدٍ يعيشونه، ولايمتلكون الأحلام أو رؤية للمستقبل، وأصبح همهم الأول التراكض وراء لقمة العيش العسيرة في بلادٍ لا يجد سكانها أنفسهم الأعمال وبالكاد يعتاشون، وأمورهم صعبه، بدءاً بالمرافق الأساسية من ماءٍ وكهرباء وطرقاتٍ قديمة ومجارٍ مهترئة، فاضطروا للعمل بأشياءٍ قد تخطر أو لا تخطر على بالكم، مما لا يُحبها البيروتيون، فعملوا في المقابر بغسيل الموتى، ودفنهم وبيع أشرطة السي دي، وَعَملَ الأطفال في البناء، والخدمة في البيوت وكنس الشوارع... الخ.
إلى ضواحي بيروت لجأ السوريون وهناك تبدأ الحكاية مع المسلسل الرمضاني السوري (غداً نلتقي)، الذي قرأت عنه وأعجبت بفكرته، وعلى رغم أنني نادراً ما أتابع المسلسلات؛ ولكن أخذتني حلقاته الثلاثون على اليوتيوب وأنهيته في أيامٍ قلائل، شدني المسلسل بالمنظومة العالية من الأحاسيس المرهفة الدافئة مع سيمفونية متناغمة مع الألم وفقدان الوطن والحنين إليه.
ويرينا المُخرج المُبدع حنا رامي مع كاتب السيناريو إياد أبو الشامات الدراما التلفزيونية، والتسجيل الوثائقي الرائع مع الممثلين المحترفين والذين أدوا أدوارهم بكفاءة عالية، وخاصةً الأطفال الجُدد على الشاشة، والذين عاشوا أدواراً كأنها حقيقية بإظهار مشاعرهم الغضة بكل صدقٍ وأمانة مع الفقر، ومعاناتهم في الجلوس في البيت للعمل، ودون تمكنهم من الالتحاق بالمدرسة لضيق اليد، وتَجبُّر الآباء أحياناً الذي كانوا يزجرونهم، وفي كبت مشاعرعهم واحتياجاتهم البريئة وكتمانها وتصرفهم الرزين، والذي لا يُشبه أبداً الأطفال في البيئاتٍ الطبيعية.
ويريد المخرج أيضاً أن يُشعرنا بسعادتهم الوقتية في تلك البيوت الضنكة، وغُرفها الخالية من أي أثاثٍ سوى المراقد الإسفنجية والأراضي الأسمنتية الباردة، تراكموا فيها كاللحوم المذبوحة، ومع ذلك هم يحاولون أن يتمتعوا في رشف فنجان القهوة مع السيجارة لغرض الكيف وتعديل المزاج، والقفش بالنكات الخفيفة، وخلق الاحتفالات المتواضعة وهم يراهقون بالحب والعشق أيضاً كعامة البشر في الظروف الطبيعية، تدور بين ثنايا الممثلين ومحاولاتهم للهجرة إلى الغرب حيث تُصان كرامة الإنسان هناك، ولذلك يجد بعض النصابين اللبنانيين ممن يبيعونهم الخيال المسموم ويغرونهم في غربتهم وأزماتهم باليزات المُزورة للجوازات، وابتزاز أموال إخوة لهم في الجيرة والعروبة الضائعة دون أية شفقة أو رحمة، حيث الغرق بحراً، فيموت من يموت أو يُقبض عليهم لتزوير الجوازات.
ومع الأيام التي لم ترحمهم أو ترأف بهم من كوارثها ومشاكلها المستمرة مع المعاناة، في السماع عن موت قريبٍ بالغرق، أو استشهادٍ في الحرب الدائرة رحاها أو ضيق منافذ الكسب المحدودة، لتجميع المبلغ للهجرة حيث تتعب وتتهالك الروح والنفوس ويغفو الضمير لتعديل الواقع المرير.
كان الحوار في المُسلسل شيقاً جداً، ومكثفاً وغنياً بالشخصيات المحكمة البناء، يحمل قضية المشردين في رِحى الحرب، والفقر مع العرض لمشاكلهم دون إعطاء الحلول وتصوير الحياة وضغوطها اليومية، وعدميتها في الحركة المُجردة للنجوم.
وكأنه غسيلٌ قذرٍ أفرزته الثورة التي لم تتم، وإلى الحكومة التي لم تعرف كيفية التفاهم، وإعطاء الحلول لشعبها لمنع الدمار، وكانت الشخصيات في منتهى التعقيد، كأن الأخوين في القصة يمثلان (المُعارض والمُوالي) للثورة على شجارٍ دائم، والاثنان وقعا في غرام وعشق وَردة المسلسل وردة الفتاة الجميلة التي تعمل بغسيل الموتى سراً، ومع شخصياتِ أخرى كثيرة ومعقدة للنازحين والهاربين من جحيم الحرب.
أسرني ذلك الغموض الذي حاول المخرج أن يحيطه بالشخصيات منذ بدء ظهورها وحتى النهاية، وكيفية اختتامها بالانهيار النفسي والدمار لمعظم الشخوص، ومع ذلك لم يخلُ من الجرأة الكوميدية البسيطة والطبيعية. إن هذه الدراما تبدو بفجاعة أبطالها بضخامة انكسار الوطن وتشتت المواطنين، إنه مسلسل رائعٌ يُرثى فيه لحال السوريون وهو تُحفةٌ فنية بجدارة، وإذ أكتفي بهذا التحليل والوصف المتواضع للمسلسل العملاق، علكم اشتقتم لمتابعته، إنها المأساة التي تعيشها شعوبنا المغلوبة على أمرها في أسوأ سنواتها في حربٍ ضروس حرقت البيوت، وشردت الملايين من الأبرياء والذين لا دخل لهم بأي نوعٍ من السياسات، تشردوا وضاعوا وماتوا فقط، لأنهم سوريون، ووجدوا في تلك الأرض في هذا الزمان، ولسوء حظهم هجَّرت الحرب شعباً من أذكى وأجمل الشعوب في العالم، وانتهكت بلاداً من أقدم الحضارات تُراثاً وتاريخاً غنياً، تشهد له الأمم، لا تكفيني الملايين من الصفحات للكتابة عنه، فسورية كما قال النبي محمد (ص) كالجسد الواحد اذا ما اشتكى منه عضوٌ تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى، وهي جُزء هامٌ جداً من وطننا العربي الكبير، وها نحن جميعاً قد بدأت إصابتنا بالحُمى الشوكية، والتَفَتُّت، ونرجو إنعاشها قبل أن تقتلنا، وقبل ان تنتشر الحُمى في باقي الجسد، اللهم آمين.
إقرأ أيضا لـ "سهيلة آل صفر"العدد 4873 - السبت 09 يناير 2016م الموافق 29 ربيع الاول 1437هـ
الحياة صعبة
الحياة ليست نزهة سوى للفنانين مثلكم ممن يتعمقون في تحلياٍ رائع ومميز بوركت يداك ياكاتبه وناقدة رائعة
كلام مميز
كلام يجب الاتعاظ بما نجم من مشاكل في هذه الدول ونشكرك للتوعية