العدد 4873 - السبت 09 يناير 2016م الموافق 29 ربيع الاول 1437هـ

وودي آلن: هنالك إمكانية لتحقق جريمة قتل مثالية

في آخر لقاء نشر العام 2015 في «التلغراف»...

وودي آلن
وودي آلن

لا يمكن أن تنفصل أعمال المخرج والممثل والكاتب السينمائي والمسرحي وعازف الجاز الأميركي وودي آلن، عن تناول مفاهيم وقضايا في الأدب. هنالك الفلسفة أيضاً، وكذلك موضوعات الهوية وحتى الجنس. صاحب الثلاث جوائز أوسكار، والمرشح لها لأكثر من 21 مرة، واحد من أكبر مخرجي هذا القرن والقرن الذي سبقه. في الأفلام التي قام بتأديتها، لا يمكن أن تتعامل مع النكتة والموقف الساخر على أنه أداء من مقتضيات العمل، ويظل عابراً. هو ليس كذلك. من وراء ذلك الموقف والسخرية المُرَّة يكمن تمرير لقيمة/ قيم كثيراً ما تظلُّ مُهملة وغير ذات أثر بالملاحظة العابرة والسطحية لها؛ إذ يرتفع بها آلن ليجعلها مليئة ومكتنزة بالدلالات والقيمة.

في الحوار قال آلن، إن القتل والموت مُغْريان للغاية، مع صوغ العبارة في ثنايا الحوار بإشارته إلى أن هناك إمكانية لتحقق جريمة قتل مثالية.

نيويورك، المدينة التي أحبَّها - ولايزال - ظلت، وستبقى، الفضاء الذي تتحرك فيه أعماله، بل هي الثيمة التي لا يستغني عنها، ليس فقط باعتبارها مدينة كوزموبوليتانية، بل لأن منها اكتشف الرجل المخبوء من إمكاناته، كما اكتشف العالم المتعدِّد من تلك الإمكانات والمواهب، تلك التي وفَّرت له القدرة على أن يخرج على العالم بالمدهش والفارق والمغاير.

في الثمانين من عمره الآن، ولكنه مازال في حيوية ابن العشرين. حيوية الذي يريد أن يدرك ما يعتقد أنه فاته. ذلك الخوف من الفوت لم يخضعه لتقديم أعمال متورطة في السطحية والبذاءة والعبث. وهو المثقف الكبير، ظل محافظاً على ذلك السحر في المواءمة بين العمق والطرح السهل والممكن ضمن تجربته.

مركزية الأمل

في اللقاء الذي أجراه كولين، قال ضمن ما قال، إن «الأديان، والفلاسفة، والفنانين، يحاولون فقط أقناعك بفاتورة بضائعهم»، وهي ملاحظة ليست على جفوة مع ما يدور في كثير من الفضاءات التي يخوضها. المخرج الذي لا يكون بارعاً في تقديم قيم مقنعة في السلعة التي يقدمها (الفيلم)، يعاني مشكلة حقيقية، ولا يمكنه أن يستمر في هذا المجال المرهق والملغَّم بالمنافسة بشكل مرعب ويدعو إلى القلق.

مشيراً إلى أنه «لا شيء من ذلك - وأولئك - يعمل على انتشالك أو مساعدتك. مهما كانت درجة حواراتك الفكرية عميقة، فالحياة ستقوم بدورها: ستدوس عليك». يبدو في كثير من آرائه صاحب نظرة كافكاوية. قليل من تصريحاته، وإن كانت مليئة بالسخرية المُرَّة، تلك التي تحاول التحايل على منغِّصات الحياة، والقفز على الجانب الرمادي فيها تظل مشحونة بكثير من التشاؤم والانقباض من الحياة في بعض جوانبها ومحطاتها، دون أن يُهمل مركزية الأمل في هذا الشأن.

وبحسب المحرِّر الأدبي في «التلغراف»، فإن هناك سببين محتملين يجعلان جمهور آلن حماسياً تجاه ما تبدو ثرثرة يطلقها: إما أنهم لا فكرة لديهم عمَّا يقوله فعلاً، وإما أنهم يعرفون ما يرمي إليه ويقوله.

في جناحه بفندق مارتينيز في وقت لاحق بعد ظهر ذلك اليوم، لبعض الحضور رفاهية وارتياح، ذلك ما بدا عليه آلن: «شبح أفلام الماضي»، ربما حضر ليذكِّرنا بوقت عندما كانت الأفلام تطرح أسماء مثل كانط وكيركيغارد، وتثق بالجمهور لا أن تستخف به.

حضر آلن إلى مدينة كان بمناسبة العرض العالمي لفيلمه الجديد «رجل طائش»، الذي كتب له السيناريو، وهو من نوعية أفلام الغموض، تؤدي دور البطولة فيه النجمة الأميركية إيما ستون، إلى جانب النجم البورتوريكي جواكين فينيكس في دور أستاذ جامعي، وتدور أحداث الفيلم حول علاقة تجمع بين أحد أستاذة الجامعة العاملين في مجال الفلسفة وإحدى طالباته التي تقع في حب أستاذها، على رغم الفوارق بينهما.

القتْل المثالي

لا يبرح آلن في فيلمه المذكور فرضيته المحبَّبة لديه، تلك التي تتعلق - بإمكانية القتل المثالي - والتفكير في مختلف العوائق المادية والروحية، كي تنجو من تبعات تلك الخطوة.

بينما كان يتناول الغداء ذات يوم مع جيل (إيما ستون)، سمع آبي (جواكين فينيكس) امرأة طُلِّقت مؤخراً تتحدث وقد اغرورقت عيناها بالدموع مع أصدقائها عن جلسة استماع ثالثة تتعلق بالحضانة. القاضي المكلف بالقضية هو أحد أصدقاء زوجها السابق، وقد تآمر الاثنان عليها سراً. وبما أن آبي لا علاقة له بالقاضي، قرَّر أن مثل هذا الرجل المريع ينبغي أن يكون ضحيته القادمة. من الناحية النظرية، قتل الرجل لابد أن يمثل جريمة مثالية، يظل الأمر في حدود الجانب النظري فحسب.

لقد غامر آلن عميقاً من قبل بالولوج في ما أسمّيه الكهوف الأخلاقية - ويتبدَّى ذلك بشكل أكثر براعة في فيلمه التحفة الذي صدر في العام 1989 «الجرائم والجنح». (هنا لابد من وقفة يقترحها محرر (الوسط)، بالإشارة على ما كتبه لاوين ميرخان في تناوله للفيلم المذكور، إذا أشار إلى أن آلن «قدَّم لنا أطروحة فلسفية شاملة ذات رؤية عميقة في فيلمه هذا. الفيلم مبنيٌّ على تساؤلات الإنسان الوجودية الأخلاقية التي تراوده منذ بداية الخليقة بشأن ضرورة الحياة وهل الحياة عبثية لا تخضع لقوانين العدالة؟ أم أن المجتمع يوجد قوانينه. وصولاً إلى ما يريد الفيلم أن يقوله، وما يحدث أحياناً للمرء حين تنتابه حالات الصدمة الإيمانية، تلك التي تدفعه إلى الدخول في طور جديد؛ حيث تعتمد حياته كلها على الإيمان بدلاً من العقل)، وفي وقت لاحق، جاء فيلماه «ماتش بوينت» و «حلم كاساندرا»؛ حيث يمسك آلن بتلابيب هذا الموضوع بشكل واضح.

تجربة آلن المُرَّة

اختيار قاضي محكمة الأسرة باعتباره ضحية تستحق الموت، تلك التي سيقوم بها آبي، تذكِّر آلن بمعركته الخاصة المليئة بالمرارة، تلك التي خاضها من أجل الحضانة مع زوجته ميا فارو، والتي تمَّت إثارتها بسبب علاقة المخرج مع سون يي بريفن، ابنة فارو من علاقة أخرى، وانتهت بحرمان آلن من الوصول إلى الأطفال الثلاثة.

يجب ملاحظة أمر هنا، أنه حتى حين لا يؤدِّي آلن الدور بنفسه في أفلامه، الا أنه يظل هناك بشخصيته حاضراً في العمل، بل في معظم أفلامه (ثمة تجربة خاصة يتم تمريرها في ثنايا الفيلم، أو ثمة رؤية هو الذي وضعها في جانب من بنيَة الفيلم)، ويمكن الوقوف على ذلك في أفلام مثل: «منتصف الليل في باريس»، الذي كتب السيناريو له أوين ويلسون، في حين لعبت دور طالبة الصحافة البلهاء في فيلم «سكوب» (سبْق صحافي) النجمة سكارليت جوهانسون، ويحكي الفيلم قصة طالبة صحافة أميركية تعيش في العاصمة البريطانية (لندن)، تسعى للحصول على سبق صحافي، وفي أثناء ذلك تلتقي شاباً أرستقراطياً.

سألتُه عن لعب دور الأبكم: من أين تأتَّت له فكرة قتل قاض في محكمة الأسرة؟ وردَّ على ذلك بقصة تحوي عمقاً، عن صديق عانى في إجراءات رفع دعوى قضائية ضد مقاول بناء مُراوغ. «والذي كان غير منصف، وأشاع لديه حالاً من الإحباط، وكان كثير الوهن، تدخل هنا المقارنة في قضية خسارة أطفالك»، كما يقول. تغيير القصة لتكون معركة على الوصاية، كما يقول، كان قراراً فيه انتقال مثير وهو ملائم، بدلاً من حصره في ضغينة شخصية.

وقال: «إذا كان أحد القضاة قد أدان شخصاً بالإعدام عن طريق الكرسي الكهربائي، أو حكم على مجموعة بالسجن، لا شيء يمكنك فعله في هذا المقام»، مضيفاً «لكن إذا تعلَّق الأمر بالأسرة، ويمكنك أن تساعد، فيبدو لي أن ذلك أفضل شيء يمكنك القيام به».

ويعرِّج آلن في الحوار على قضايا وموضوعات تبدو متباينة، وليست على صلة، لكنها كذلك، بحكم أنها تتناول تجربته في مجال السينما، كتابة وتمثيلاً، ويقول في هذا الصدد: «قضيت معظم حياتي أقول: لست أنا، ولكن الجمهور لا يحبُّ سماع ذلك. عندما قدَّمت (آني هول)، ظنَّ الناس أنه كان فيلماً مشغولاً بالسيرة الذاتية. قلت وقتها: إنها ليست كذلك. أنا من صنع هذا الفيلم، وأنا من تولَّى كتابته مع مارشال بريكمان، على رغم أن كثيراً من الأفكار والنكات فيه لم أكن مصدرها. لكن الجمهور لا يريد أن يعرف ذلك. هنالك أمر مريح في الموضوع - ليس لأنني على علاقة بالأمر، ولكنه يتعلق ببعض الناس - بحسبان أن الأفلام تقدم لهم القصة الحقيقية».

لقطة من فيلم «الجرائم والجنح»
لقطة من فيلم «الجرائم والجنح»




التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً