ما تحدثت مع أحد، إلا وزعم أنه يعرف الحقيقة المطلقة، وأنه مع الحقيقة، والحقيقة معه، وهذا مرض أصيبت به مجتمعاتنا بسبب تطور فيروس «الفرقة الناجية» في العقل البشري.
الحقيقة لا تدرك بدون معرفة، والمعرفة نوعان، معرفة ذهنية (عقلية) ومعرفة وجدانية.
وفي المعرفة الذهنية العقلية، يصل الإنسان إلى ادراك حقيقتين، الأولى مطلقة، والثانية نسبية.
فالحقيقة المطلقة عندما تكون المعرفة كاملة فـ (1+1=...)، هي معرفة كاملة، بالتالي يمكنك أن تصل إلى حقيقة مطلقة بأن الجواب ( 2)، أما الحقيقة النسبية فتكون المعرفة ناقصة، فـ (1+1+...+...=...)، هي معرفة ناقصة، تعرف جزءاً منها، وجزء مفقود، وبالتالي تكون نسبة الحقيقة بحجم نسبة المعرفة المتوافرة، فإذا كان الجواب (2) فهو حقيقة نسبية فيه جزء من الصحة أو قريب من الصحة.
مثال، سئل طالب، عن مجموع زوايا مثلث متساوي الأضلاع، فتوصل الطالب إلى حقيقة مطلقة بأن مجموع زوايا المثلث تساوي 180 درجة؛ لأنه استطاع أن يحصل على معرفة كاملة، بأن المثلث يتكون من ثلاثة أضلاع، ومن ثلاث زوايا، وكل زاوية درجتها 60 درجة، وبالتالي جمع (60+60+60= 180). وبما أن المعرفة هنا كاملة فالحقيقة مطلقة.
لكن لو سئل الطالب، أن يحدد شخصية (جعفر)، فإن أجابته مهما تكن ستكون حقيقة نسبية؛ لأنه من المستحيل أن يجمع الطالب كل المعرفة عن جعفر منذ ولادته حتى اليوم، وبالتالي يبني إجاباته على معلومات قاصرة، وتكون نسبة الحقيقة بنسبة المعرفة التي جمعها عن جعفر.
فالمعادلة عن جعفر (طيب+ عصبي+ ودود +....+...+...+...=...)، ربما تعرف عنه 100 معلومة لكنك تجهل عنه آلاف المعلومات.
وخلاصة المعرفة الذهنية (العقلية)، أنها تؤدي إلى إدراك حقيقة مطلقة إذا كانت المعرفة مكتملة، وتؤدي إلى إدراك حقيقة نسبية إذا كانت المعرفة غير مكتملة. أما المعرفة الوجدانية (القلبية) فهي نور داخلي يكشف الزيف عن الصواب، وهذه المعرفة لا تنال لا بالكتب ولا بالعلم، بل بنور الحب، بمدى صفاء قلبك ونقاء ضميرك تنكشف لك الحقائق.
للتوضيح، أن «أمّاً» فجأة خفق قلبها، وقالت: «ابني حدث له شيء»، فاتصل الأب بالابن اتصالاً دوليّاً؛ لأن الابن يدرس في بلد آخر، فكان الهاتف مغلقاً، بعدها تبين أنه في المستشفى في العناية المركزة بسبب حادث. هنا الأم أدركت من خلال معرفة وجدانية.
والفرق بين الحقيقة العقلية والحقيقة الوجدانية، أن الاعتراف بصحة الحقيقة العقلية يحتاج إلى برهان باهر، بينما الاعتراف بصحة الحقيقة الوجدانية يحتاج إلى منطق طاهر.
فالعلماء الذين يتخذون من العقل وسيلة لبلوغ الحقائق وكشف أسرار الكون، دائما يضعون أدلة وبراهين على صحة ما يتوصلون إليه لإقناع الناس، وهؤلاء رواد في العالم المادي للوجود، أما الذين يتخذون من القلب وسيلة لبلوغ أسرار الحياة، فإنهم يتحدثون بمنطقهم الطاهر في إقناع الناس، وهؤلاء رواد في العالم المعنوي للوجود.
مثال للتوضيح، عندما يقول الحكيم: «تمنَّ الخير لغيرك، يأتك الخير من حيث لا تحتسب»، هذه الجملة قد نؤمن بها؛ لأنها تقوم على منطق طاهر، وليس على الدليل.
وعندما يقول العلماء: «إن القمر يضيء؛ لأن نور الشمس ينعكس على القمر»، فهذه الجملة تقوم على الدليل العلمي، وليس على المنطق الطاهر.
والخلاصة، أن من يقول أن حزبه أو طائفته أوديانته هي «الفرقة الناجية»، فهو واهم كل الوهم؛ لأنها لا تقوم لا على دليل باهر ولا على منطق طاهر.
فحتى تقول إن طائفتك هي «الفرقة الناجية»، من خلال المعرفة العقلية، عليك أولاً أن تحصل على معرفة كاملة عن كل الأديان، وكل المذاهب في العالم، وهذا مستحيل على بشر، وبالتالي ستكون المعرفة العقلية معرفة نسبية فيها جزء من الصح وفيها جزء من الخطأ.
وحتى تثبت أن طائفتك هي «الفرقة الناجية» من خلال المعرفة الوجدانية، فتحتاج إلى منطق طاهر، وهذا غير متوافر، فدخول «كل البشر بمختلف دياناتهم ومذاهبهم النار ما عدا طائفتك»، منطق غير طاهر. وهو منطق ابليس الذي يريد لكل البشر دخول النار.
فالمنطق الطاهر يقول إن الإيمان بالإله هو إحساس بالحب والجمال، وإن الله خلق الإنسان ليمنحه فرصة ليمتلئ بالحب والجمال، ويفيض قلبه بالمحبة... وإن الله رحمن رحيم، يحب خلقه، يفيض عليهم برحمته وحنانه، ويريد من الإنسان فعل الخير ليمحو أخطاءه ويغفر له.
فالمنطق الطاهر هو «إن كل شعوب العالم تدخل الجنة بضميرها»، والمنطق غير الطاهر، هو «إن كل شعوب العالم تدخل النار وتعذب أشد العذاب مهما فعلت من خير وإحسان، ماعدا طائفتك التي تنعم في الجنة، وإن فعلت الشر يشفع لها».
إقرأ أيضا لـ "عباس المغني"العدد 4872 - الجمعة 08 يناير 2016م الموافق 28 ربيع الاول 1437هـ
لا يمكن أن يجعل الله البحث عن دينه صعباً لدرجة تصعب على كبار العلماء و الباحثين و المتخصصين
و لا يمكن أن يجعل الله الحقيقة خافية ، مائعة يصعب التفريق بينها و بين غيرها على جميع البشر
و لا يمكن أن يجعل الله جميع البشر حائرون
و لا يمكن أن يطلب الله من جميع البشر أن يؤمنوا أنهم على الحق ؛ لكن عليهم ألا يجزموا بذلك
و لا يمكن أن يطلب الله من جميع البشر أن يضعوا احتمال كونهم على الباطل؛ مع كونهم على الحق
و لا يُحتمل أن تخفى الحقيقة على جميع البشر لا يعرفها أحد ؛ لأنَّ عندها تسقط الحجة بين
لا نلعب "بالأزرق " إما الحقائق ؛ و إما أنَّ جميع البشر مخطئون و جميعهم مصيبون في نفس الوقت2
ولإثبات أنَّ "الطائفة" هي الناجية ؛ فينبغي إرجاع جميع أصول هذه الطائفة إلى الدين الذي ثبت أنه منزل.
و غير هذا فنحن أمام منطق غير طاهر؛ هو منطق ابليس الذي يريد لكل البشر دخول النار. أي جميع البشر يُحتمل دخولهم في الجنة ؛ و جميع البشر يُحتمل دخولهم النار!
لا نلعب "بالأزرق " إما الحقائق ؛ و إما أنَّ جميع البشر مخطئون و جميعهم مصيبون في نفس الوقت1
أولاً إثبات أنَّ الدين الذي تنتمي إليه "الطائفة" هو دين منزل موحىً به من السماء. و هذا ينبغي أن يكون مرجعه الالعلم و العقل و المنطق الذي يخضع إليه الجميع ؛ بالحقائق المطلقة، المسلم بها من قبل الجميع.
مشكور استاذي على هذا المقال الرئع. وخل بعض الناس يفهمون هذا الكلام كل شي يسويه بسم الدين والمذهب والله ان الدين والمذهب بريْ منهم ومن افعالهم