قال الشيخ محمد صنقور، في خطبته بجامع الإمام الصادق (ع) في الدراز أمس (الجمعة): «يظهرُ بحسبِ المُعطياتِ التأريخيَّة أنَّ المنطقةَ لم تشهدْ توتُّراً طائفيَّاً بالحجمِ الذي نحنُ عليه في الوقتِ الحالي، وذلك يفرضُ على علماءِ الطائفتينِ الكريمتينِ وعمومِ الناس مزيداً من اليقظةِ والحذرِ وأقصى درجاتِ التعقُّلِ وضبطِ النفسِ، والنظرِ ببصيرةٍ في مآلاتِ الأمورِ وعواقبِها، والمراقبةِ الذاتيَّةِ المشدَّدةِ في السلوكِ والخطابِ، فإنَّ الانسياقَ وراءَ مشاعرِ الغَيظِ والغضبِ أو التشفِّي والانتقامِ والاستدعاءَ لبواعثِ هذه المشاعرِ في النفسِ سوف يُذكي من لهيبِ هذا التوتُّر وهو ما قد يُفضِي -لا قدَّرَ اللهُ- إلى حريقٍ يَحصُدُ الحرثَ والنسل».
وأوضح أن «من البصيرةِ والتعقُّلِ في مثلِ هذه الظروفِ الاستثنائيةِ أن لا يكتبَ أو يتحدَّثَ من أحدٍ على رسلِه أو يتَّخذَ موقفاً دون ترِّوٍ وتأمُّلٍ في مؤدياتِ حديثِه أو سلوكِه، فإنَّ التوتُّرَ الطائفيَّ كثيراً ما يَنشأُ أو يتعاظمُ نتيجةَ أحاديثَ عابرةٍ ومواقفَ غيرِ محسوبةٍ ولا مسئولةٍ، يتلقَّفُها المنتفعونَ من التوتُّرِ الطائفي ليتَّخذوا منها وَقوداً لتأجيجِ الحس الطائفي».
وأضاف «ينبغي درءً لأسبابِ التأجيجِ من حالةِ التوتُّر الطائفيِّ الاستحضارُ لحقائقَ خمسةٍ نذكِّرُ بها بنحوٍ موجز: الحقيقة الأولى: هي إنَّ الانتصاراتِ في الصراعاتِ الطائفيَّةِ وهميَّةٌ دائماً أو غالباً، فالمُنتصِرُ الحقيقيُّ يكونُ دائماً من غيرِ الطائفتينِ وإنْ تظاهرَ بالانتماءِ لإحداهما أو الانتصارِ لها، ومن جهةٍ أُخرى فإنَّ التاريخَ يشهدُ أنه ليس في وُسعِ طائفةٍ القضاءُ والاستئصالُ لطائفةٍ أُخرى، وغالباً ما يكونُ الانتصارُ في موقعٍ تَعقبُه أو تتزامنُ معه هزيمةٌ في موقعٍ آخر، ثم إنَّ المُنتصِرَ في الصراعاتِ الطائفيَّةِ لا يسعُه الانتصارُ إلا بالظلمِ والبغيِّ والتعدِّي سواء بسفكِ الدمِ الحرامِ أو بالكذبِ والافتراءِ أو بانتقاصِ الحقوقِ، وكلُّ ذلك يضرُّ بدينِ المُنتصِرِ، وحينَ يكونُ انتصارُ طائفةٍ دينيَّةٍ على أخرى بتخلِّي المنتصِرةِ منهما عن دينِها وقيَمِها فذلك من الانتصارِ الوهميِّ، إذ إنَّه ما خيرٌ بخيرٍ عاقبتُه النارُ، فالعاقبةُ إنَّما هي للتقوى، والحقيقة الثانية: إنَّ المنتفعينَ من حالةِ التوتُّرِ الطائفيِّ هم غيرُ المُتوتِّرينَ طائفيَّاً، فالصراعاتُ والتوتراتُ يُؤجِّجُها من لا شأنَ له بالدينِ، نعم صدى هؤلاءِ المؤجِّجينَ وأبواقُهم وحِرابُهم هم سُفهاءُ الطوائفِ، وهم يَحسبونَ أنَّهم على شيءٍ والواقعُ انَّهم أدواتٌ طيِّعةٌ من حيثُ لا يشعرونَ يستطيلُ بها المنتفعونَ لتمريرِ مشاريعِهم المحلِّية أو التوسُّعيَّةِ، إذ إنَّ الصراعاتِ إما أنْ تكونَ إضعافاً تسهلُ معه الهيمنةُ أو يكونُ فوضى خلَّاقةً أو كلاهما معاً أو يكونُ مبتغي الفوضى الخلَّاقةِ المرورَ عبرَ المنتفعينَ الصغارِ».
وتابع صنقور «الحقيقة الثالثة: إنَّ قدرَنا الذي قدَّره اللهُ تعالى علينا (شاكرينَ لآلائِه) أنْ نكونَ في وطنٍ واحدٍ لا يسعُ كلٌّ منَّا إلغاءَ الآخرِ بل ولا تجاهلَه، فمصالحُنا مترابطةٌ ومتشابكة إنْ تراختْ وإن تقلَّصتْ، فالخيرُ إن حلَّ يَعمُّ، والشرُّ إنْ طَرَقَ لا يستثني، إنَّ الإدراك لهذه الحقيقةِ واستيعابَها والتفهُّمَ لها يَضعُ عن كواهلِنا جميعاً الكثيرَ من الأحمالِ والمتاعبِ، الحقيقة الرابعة: إنَّ التعايشَ ممكنٌ بل وميسورٌ، وفيه الخيرُ كلُّ الخيرِ لهذا الوطن وأبنائِه، فهو لا يسترعي أكثرَ من التفهُّمِ للاختلافِ والخصوصيَّاتِ واحترامِ كلِّ للآخر لإنسانيتِه أو كونِه نظيراً في الدينِ وشريكاً في الوطنِ بقطعِ النظر عن انتمائِه المذهبي، فأيُّ شيءٍ يضيرُكَ أنْ أعتقدَ أنَّي من الفُرقةِ الناجيةِ، وأيُّ شيءٍ يضيرُني أنْ تَعتقدَ انَّك من الفُرقةِ الناجيةِ، دعونا نتعايشُ في الدنيا ويومَ تقومُ الساعةُ يفصلُ اللهُ تعالى في هذا الشأنِ، ونرجو أنْ نكونَ جميعاً في الناجينَ إمَّا استحقاقاً أو بعفوِ اللهِ تعالى، فالجنَّةُ التي ستسعُ الفُرقةَ الناجيةَ استحقاقاً لن تَضيقَ عن استيعابِ الفُرقةِ الأخرى، فرحمة اللهِ تعالى وسِعتْ كلَّ شيءٍ، الحقيقة الخامسة: إنَّ الصراعَ والشِقاقَ بين طوائفِ هذه الأمةِ منافٍ لقيمِ الدينِ ومقاصدِ الشريعةِ حتى لو لم يرقَ لمستوىً تُسفكُ فيه الدماءُ وتُستباحُ به الأموالُ والأعراضُ، فما دونَ ذلك مبغوضٌ وممقوتٌ أيضاً في دينِ اللهِ تعالى الذي حثَّ في كتابِه المجيدِ على التآلفِ والتعارفِ والتآخي ونبذِ التباغُضِ والتحاسُدِ والمكرِ والمُكايدةِ، فهل نَتقرَّبُ إلى اللهِ تعالى بما هو مبغوضٌ وممقوتٌ عندَه؟! وهل نرجو الحظوةَ عند اللهِ تعالى بنبذِ ما حثَّنا على تمثُّلِه والالتزامِ به من التآلفِ والتعارفِ والرعايةِ لحقوقِ بعضِنا البعض».
ونبه صنقور إلى أن «الشِقاقَ أو التوتُّرَ الطائفيَّ لا يَجني منه المُبتلى به سوى التوتُّرِ في النفسِ والحدَّةِ في الرأي والتوجُّسِ والخوفِ والتحسُّبِ والاصطفافِ بلا عائدٍ، والشعورِ المتشنِّجِ وغيرِ المتَّزنِ بالحاجةِ إلى الاستعانةِ بمَن لا يهمُّه الدين، ولا تشغلُه سوى مصالحِه، والتي غالباً ما تكونُ منافيةً لمصلحةِ المُستظهِر به، فلا يَجني من الاستعانةِ به سوى الظهورِ على خصمِه والذي لن يكونَ دونَ ثمنٍ، ولن يقبلَ بالبخسِ من الثمن بل ولا بالمشاطرةِ، فهو لنْ يقبلَ إلا أنْ تكونَ الوقودَ والثمنَ في عرضِ واحد»، ونوه إلى أن «استحضارَ هذه الحقائقِ في الذاكرةِ على نحوِ الدوامِ والإيمانَ بها، وتنشأةَ أبنائِنا وترويضَهم على تفهُّمِ هذه الحقائقِ يُسهمُ وإلى حدٍّ كبيرٍ في نزعِ فتيلِ التوتُّرِ الطائفي الذي ابتُليتْ به هذه الأمةُ دون موجبٍ حقيقيٍّ وإنَّما هو بعواملَ مُفتَعلةٍ ساعدَ على نجاحِها غيابُ الوعيِ والغفلةُ عمَّا يُرادُ بنا».
وشدد صنقور على أن «العلماءَ من الفريقينِ والمثقفينَ منهم والمشتغلينَ بالشأنِ السياسيِّ أو الاجتماعيِّ معنيُّونَ بالدرجةِ الأولى بالحذرِ والتحذيرِ من مخاطرِ الخطابِ والسلوكِ الطائفي، فإنَّ التبسيط أو التهاونَ في هذا الشأنِ فضلاً عن المساهمة في تأجيجِه يُعدُّ جنايةً في حقِّ الوطنِ وأهلِه، وهي جنايةٌ في المآلِ على السِلْمِ الأهلي كما شهدنا ذلك في العديدِ من البلدان فإنَّ التوتَّر يبدأ بالخطابِ غيرِ المسئول والمواقفِ غير المحسوبةِ ثم يرقى إلى السلوك المستفِزِّ والازدراءِ والتوهينِ ثم ينتهي إلى الاقتتال».
وذكر صنقور أن «على الحكومةِ أنْ تكونَ في خطابِها وسياساتِها على مسافةٍ واحدةٍ من جميعِ أطيافِ البلد، فإنَّ محاباتَها لطائفةٍ على حسابِ طائفةٍ أُخرى يُعمِّقُ من حالةِ التوتُّرِ الطائفي».
وفي موضوع آخر، تحدث صنقور عن «حسن جوار النعم»، وقال: «وردَ في المأثورِ عن الإمامِ أبي الحسنِ عليِّ بنِ موسى الرضا (ع) أنَّه قال يُوصي أحدَ شيعتِه: يا عليُّ أحسِنوا جوارَ النِعَمِ فإنَّها وحشيَّةٌ، ما نأتْ عن قومٍ فعادتْ إليهم، ومعنى قولِه: «أحسِنوا جوارَ النِعَمِ» هو أنَّ مَنْ حَظيَ بنعمةٍ من نِعمِ الله تعالى فهو مكلَّفٌ بالحمايةِ والرعايةِ لها والتحفُّظِ عليها، فذلك هو معنى أنْ يُحسنَ جوارَها. فأنْ أُحسنَ الجوارَ لأحدٍ هو أنْ أُحافظَ على ما ألتزمتُ به معه من جِوارِه وحياطتِه، فأنْ أُجيرَ أحداً يعني أنْ أحميَه وأُدافعَ عنه، ولا أُسلمَه، ولا أخذلَه، فذلك هو معنى أنْ أُحسنَ جوارَه، وفي مقابلِ الإحسانِ لجوارِه هو التفريطُ في جوارِه، وذلك بالتخلِّي أو التواني والتهاونِ في حمايتِه والذودِ عنه، وعدم الدفعِ بما يليقُ للشرورِ والأذى وكيدِ الأعداءِ عنه، فينشأُ عن هذا التفريطِ أنْ يقعَ هذا الذي أجرتُه في المحذورِ الذي كان يَخشاهُ فاستجار بي لدفعه وعدم الوقوع فيه. وكذلك فإنَّ معنى أنْ أُحسنَ جِوارَ جيراني هو أنْ أرعاهم، وأُراقبَ أحوالَهم، وأنْ أنظرَ في شئونِهم، فأقضي ما يحتاجونَه لو كنتُ قادراً على قضائه، وأسعي في قضاءِ ما لا أقدرُ بنفسي على قضائه، عندئذٍ أكونُ قد أحسنتُ الجِوار لجيراني، وفي مقابلِ ذلك التفريطُ في جِوارِ جيراني، وذلك بإهمالِ الرعايةِ لهم، وعدم الاهتمامِ بشأنِهم، والسعي في الرفعِ من عوَزهم والتنفيسِ عن الضيقِ الذي ألمَّ بهم، فذلك هو معنى التفريطِ في الجِوار لهم».
وأشار صنقور إلى أن «الإمامُ (ع) يُشبِّه النعمةَ بالجارِ أو بالمستجيرِ الذي لجأَ واستجار بك يبتغي حمايتَك ويرجو أن تذودَ عنه، وترعاه، وتكفيَه شرورَ عدوِّه. فمفادُ كلامِ الإمام (ع) هو أنَّ هذه النعمةَ التي منحَك اللهُ تعالى إياها هي بمثابةِ رجلٍ ضعيفٍ استجار عندك، فإنْ أحسنتَ جوارَه كنتَ قد أدَّيتَ حقَّاً هو عليك فتكون مستحقاً للجزاء، كذلك هي النعمة التي منحك اللهُ إيَّاها إنْ أحسنتَ جوارها، وذلك بحسن تدبيرها والرعاية لها عن الضياع فحينذاك تكون قد التزمت بحقٍّ هو عليك وتكون ثمرته هي أن لا يسلبك الله هذه النعمة بل قد يحبوك بمثلها وأضعافها وإن فرطت في حفظها وأسأت في تدبيرها عرضتها للزوال».
وذكر صنقور أن «توصيفَ الإمامِ (ع) نِعمَ اللهِ تعالى بالوحشيَّة فيه تشبيهٌ لها بالطيورِ الوحشيَّةِ والبهائمِ الوحشيَّة في مقابل الطيور والبهائم الداجنةِ المعبَّر عنها بالأهليَّة. فالطيرُ الوحشي هو الذي ينفر من الإنسانِ إذا اقترب منه فهو لا يأمنُ الإنسان بطبعه بل يخشاه ويحذرُ منه، وكذلك هو الحيوانُ الوحشيُّ فإنَّه ينفرُ لمجرَّد اقترابِ الإنسانِ منه حذراً من وقوعِه في قبضتِه، والوحشيُّ من الحيواناتِ والطيورِ لو اتَّفقَ أنْ أمسكَه الإنسانُ فحبسَه فإنَّه إنْ شاء الاحتفاظَ به حتى لا ينفرَ وحتى لا يهرب فإنَّ عليه مراقبتَه، والإحكِامَ لحبسه، أمَّا إذا ما فرَّط في مراقبتِه ولم يُحسنْ حبسَه، فوجدَ هذا الحيوانُ أو هذا الطيرُ فرصةً ومهرباً فإنَّه ينفر ويهربُ ثم لا يعود. فالإنسانُ والطيرُ الوحشيُّ كلٌّ منهما يُراقبُ الآخر، فالإنسانُ يُراقبُ الطيرَ حتى لا يفرَّ منه، والطيرُ يُراقبُ الإنسانَ يبتغي غفلتَه لينفرَ منه، فالإمامُ (ع) أرادَ أن يقولَ بأنَّ العلاقةَ بين النِعمِ الإلهيَّةِ وبين الإنسانِ التي يَحظى بها أشبهُ شيءٍ بعلاقةِ الإنسانِ بالطيرِ الوحشيِّ الذي وقعَ في يدِه، إنْ أحسنَ تدبيرَ حبسِه تمكَّنَ من الإبقاءِ عليه في حوزتِه وتحت يدِه، وإنْ فرَّط وغفِل وتهاونَ ولم يكترثْ فإنَّ الطيرَ يُراقبُ غفلتَه، ويرصدُ أيَّ فرصةٍ سانحةٍ ليَفِرَّ منه، فإذا تمكَّن من الفرارِ لم يعُدْ إليه».
العدد 4872 - الجمعة 08 يناير 2016م الموافق 28 ربيع الاول 1437هـ
..
أحسنت
زينة العقل
هذا الكلام زينة العقل والحكمة ياريت يعمل به الجميع ...
فلنسعَ إلى الخير والسلام والوئام بدلاً من الظلم و الطائفية
احسنت شيخنا على الكلام المتعقل
بارك الله فيك وكثر من امثالك من الطائفتين الكريمتين