سبق أن ذكرنا في الحلقة السابقة أن البحرين في الفترة ما بين 250 ق.م - 150م، شهدت زيادة كبيرة في أعداد السكان، وصل لدرجة الذروة في ضمن الحقب الهلنستية، وهذه الحقبة تتضمن الفترة التي كانت فيها البحرين ضمن مملكة هجر التي تضم شرق الجزيرة العربية أيضاً. يذكر أن البحرين، في هذه الحقبة، تأثرت بالجزء الجنوبي الشرقي والجزء الجنوبي الغربي من شبه الجزيرة العربية، وهذه المناطق، هي ذاتها، المناطق التي ينتشر بها نظام الأفلاج أو القنوات التحت أرضية (انظر الخارطة). ويرجح Lightfoot أن بداية ظهور نظام الأفلاج في شبه الجزيرة العربية كان في الجزء الجنوبي الشرقي لشبه الجزيرة العربية (أي دولة الإمارات العربية وسلطنة عمان حالياً) وذلك قرابة العام 700 ق. م.، ومن هذه المناطق انتشر نظام الأفلاج إلى جنوب شبه الجزيرة العربية بعد القرن الخامس الميلادي. كما يرجح Lightfoot أن نظام الأفلاج انتشر إلى البحرين الكبرى إما من بلاد فارس في الحقبة الساسانية، أو من جنوب شرق شبه الجزيرة العربية (Lightfoot 2000).
يذكر أن ترجيحات انتشار نظام الأفلاج في شبه الجزيرة العربية، باستثناء عمان والإمارات العربية، تستند لدلائل نظرية بحتة، وترتبط، في الغالب، بالسيطرة الساسانية على تلك المناطق. وينفرد Bowen برأي آخر؛ حيث يرجح أن نظام الأفلاج انتشر في شرق الجزيرة العربية قبل السيطرة الساسانية، وذلك بفضل الحميريين (يقصد بهم عرب الجنوب أو الذين يستخدمون حروف المسند في كتابتهم)؛ وذلك بسبب وجود قبور لحميريين في هذه المنطقة محفورة في الصخر ولها علاقة بقنوات تحت أرضية (Bowen 1950, pp. 51 - 52). وفي هذا إشارة للنقوشات التي كتبت بخط المسند والتي عرفت بالحسائية والتي ظهرت في الحقبة 350 ق. م. - 100 ق. م. والتي تشمل مملكة هجر.
مفردات نظام الأفلاج وعلاقتها بعرب الجنوب
يتركز نظام الأفلاج بصورة أساسية في البحرين الكبرى وفي الجزء الجنوبي الشرقي والجزء الجنوبي الغربي لشبه الجزيرة العربية. وقد كانت هذه المناطق على علاقة وطيدة فيما بينها خصوصاً في حقبة ذروة تايلوس عندما كانت جزءاً من مملكة هجر (220 - 140 ق. م.). وقد سبق أن ذكرنا في الحلقة السابقة استخدام حروف المسند على عمل هذه المملكة وكذلك في النقوش الحسائية. كذلك، فإن الدراسات اللغوية الحديثة تثبت وجود عدد من الظواهر المشتركة للهجات الحضرية في هذه المناطق (راجع التفاصيل في سلسلة حلقات أطلس اللهجات في البحرين). كما إن بعض المفردات المستخدمة في وصف نظام القنوات والأفلاج تتشابه فيما بينها، وهي مفردات ذات أصول عربية أو عربية جنوبية. ويشير الهاشمي لهذا التشابه في المفردات الذي ليس له علاقة بالمفردات الفارسية ويؤكد على أن هذه المفردات «تؤكد معرفة العرب القديمة لهذا النوع من المشاريع الاروائية بدليل الألفاظ التي ابتكرتها للتعبير عنها» (الهاشمي 1979).
لقد سبق أن تناولنا، في سلسلة مقالات سابقة، مفردات نظام الأفلاج بصورة مفصلة، لذلك سنتناول بعض المفردات وعلاقتها بالعربية الجنوبية.
النقب والفقب والتنگاب والتنگوب
في الكتابات العربية الجنوبية التي عثر عليها في اليمن والتي كتبت بخط المسند، يعبر عن القنوات التحت أرضية باسم نقب ومفردها نقبه. كذلك، أطلق العبرانيون على هذه المجاري اسم «نقبه» (علي 1985, ص 64). يذكر أنه في منطقة سيبان الواقعة في جنوب حضرموت كانت تبنى قنوات شبيهة بنظام القنوات والثقب الموجودة في البحرين، وتسمى في حضرموت نقابه ونقاب. وهذه القنوات كانت تحفر في الأرض ثم يتم تغطية جزئها العلوي بسقف، وتترك للقناة فتحات عرضها ن0حو المتر؛ ليؤخذ منها الماء من الجوف؛ حيث يكون عمقه ما بين ثلاثة إلى أربعة أمتار (علي 1985, ص 64).
هذه الفتحات التي يبنى حولها بالحجارة لتصبح شبيهة بالآبار تسمى في البحرين باسم التناگيب (التناقيب) أو الفقب، وكذلك في شرق الجزيرة العربية ووسطها تسمى هذه الفتحات التناقيب. وهناك مواضع في الجزيرة العربية تحمل اسم «تناقيب»، وقد شاع مصطلحي النقبة وجمعها تناقيب بمعنى خزانات مائية أرضية وذلك في الأدبيات العلمية، ليس فقط في الجزيرة العربية وإنما أيضاً في المغرب العربي (بجاوي 2005). وربما كانت هذه المصطلحات متعارف عليها عند العامة. والعامة في البحرين والقطيف تستعمل صيغة خاصة للمفرد المعرف من مصطلح «التناقيب» وهي «التنگاب» (التنقاب)، ويقال أحياناً التنگوب (التنقوب)، هذا المصطلح عند العامة يعني إحدى فتحات القناة أي مفرد تناقيب، لكنه يأتي أيضاً بمعانٍ أخرى؛ ففي كل من قرية القُرية وقرية كرزكان هذا المصطلح يعني حماماً خاصّاً للرجال.
وبالرجوع للمعاجم نلاحظ أن نقب تعني ثقب وتعني أيضاً الطريق الضيقة (تاج العروس مادة نقب)، بينما في العربية الجنوبية تعني قنوات تحت الأرض أو مخازن مياه أرضية، وهناك من يأتي بالجمع منها على صورة «تناقيب». وعليه فالمرجح أن أصل المصطلح المحلي من العربية الجنوبية. يذكر أن هناك من يزعم أن أصل مصطلح تناقيب وتنقاب (أي تنگاب) فارسي؛ حيث إنه يشبه مصطلح فارسي «تنگ آب». ليس لي اطلاع واسع في اللغة الفارسية ولا أعرف الرابط بين المصطلحين، إلا أنه في اتصال شخصي مع الباحث علي أكبر بوشهري، أكد أنه لا يرجح أن هذه المصطلحات من أصل فارسي، ويرجح أصلها العربي. كذلك، بالرجوع للمعجم الإنجليزي الفارسي (Aryanpur & Aryanpur, 1992) يتضح لنا أن مصطلح «تنگ آب» تعني watertight أي محكم، لا يسمح بمرور الماء، ومنه اسم سد «تنگ آب». أما خزان الماء بالفارسية فهو «تانك آب».
الكراف
من أسماء القنوات والذي ارتبط بنظام الثقب، الكراف، وهذا المصطلح معروف في قرية كرزكان، وهي قناة متوسطة الطول والعرض تكون مصدر للماء، وهي تعرف في مناطق أخرى باسم النهر الصغير (يوسف وآخرون 2010, ص 76). هذه اللفظة، أي الكراف، معروفة منذ القدم في جنوب الجزيرة العربية؛ فقد جاء في بحث جواد علي حول ألفاظ الزراعة في نقوشات المسند لفظة «كرف» وهي النهر الصغير (علي 1985, ص 65). كذلك، فقد استخدمت هذه اللفظة في اللغة العربية الجنوبية برسم «كريف» عند الهمداني، وهو يمني، وذلك في كتابيه «صفة جزيرة العرب» و»الإكليل»، وهي بمعنى النهر الصغير، وكذلك الأخدود الذي يبنى حول القلاع والقصور ويملأ بالماء (علي 1985, ص 65).
الخلاصة
عديد من الكتاب يرجحون انتشار تقنية حفر الأفلاج في البحرين الكبرى في حقبة السيطرة الساسانية على المنطقة، ربما بعد منتصف القرن الرابع الميلادي. إلا أن هذا الترجيح يتعارض مع نتائج التنقيبات الآثارية في البحرين، كما سبق أن أسلفنا في حلقات سابقة. وكبديل لهذا الترجيح، يمكننا، في حال تم الترجيح أن نظام الأفلاج حفر في البحرين الكبرى في وقت ما قبل الإسلام، يمكننا أن نرجح أن هذه القنوات تم حفرها في الفترة التي سبقت السيطرة الساسانية، أو بالتحديد في فترة ذروة الاستيطان في تلك الحقبة وهي الفترة 250 ق. م - 150م، وهي الحقبة التي تتضمن حقبة قيام مملكة هجر، وهذه الفرضية تم ترجيحها من قبل Bowen في العام 1950م. أما في حال تم الترجيح أن نظام الأفلاج حفر في البحرين الكبرى بعد الإسلام، فهناك سيناريو آخر سنناقشه في الحلقات القادمة.