يُحتفل هذه الأيام بذكرى مولد الإمام علي بن أبي طالب (ع)، الذي بدأت حياته في بطن الكعبة المشرفة حيث يتجه المسلمون للصلاة خمس مرات كل يوم، واختتمت في محراب الصلاة بجامع الكوفة، وما بين المحطتين حياةٌ حافلةٌ بالعطاء والنقاء والعناء امتدت ستين عاما ونيّفا.
حياة عليّ (ع) ارتبطت بانطلاقة الدين الجديد، فقد تربّى في حضن صاحب الرسالة وتشرّب تعاليمه حتى امتزجت بدمه وسرت في عروقه، وكرّم الله وجهه عن السجود لصنمٍ من حجر أو طين. وكان يعتبر ميزانا للاستقامة والتجرد ونكران الذات. ومثلت سيرته مصدر إلهامٍ للأجيال، تضخ قيم الشجاعة والإقدام والتمسك بالقيم، ما جعله يصطدم بالكثير من العقبات ويختلف معه كثيرٌ من الرفاق.
الرجل الذي أعطى الإسلام شبابه وكهولته وشيخوخته، كافأته السياسة بسنّ شتمه على المنابر لمدة تسعين عاما في القرن الهجري الأول، ومع ذلك ظلّت كتب التاريخ حافلة بذكر مواقفه وأخبار جهاده وتضحياته. على أن فترة السنوات الخمس الأخيرة من حياته ربما كانت هي الأكثر رسوخا في الوجدان الإسلامي، لارتباطها بالحروب الأهلية وتجربة الحكم الذي تكالبت على إسقاطه كتلٌ قبليةٌ وشخصياتٌ كبيرةٌ وأحزاب.
هذه الفترة المكلّلة بالأسى والحسرة لضياع تجربة الحكم الإسلامي الأصيل، ظلت هي الأكثر إشراقا وخلودا وإلهاما في سيرة الإمام. وفي مقدمة هذه السيرة، ما انتهجه من مبادئ وقيم وتعاليم في مجال العدالة والمساواة والحقوق وحفظ المال العام.
تأتيه امرأةٌ من بلدٍ بعيد، وهو يصلّي، فيسرّع من صلاته لينظر في مسألتها، ولما عرف شكواها من عامله أصدر أمرا بعزله وأعطاها كتابا بذلك. فالرجل لا يدافع عن عمّاله ووزرائه، ولا يمنحهم حصانة ترفعهم فوق المساءلة، فمن ضاق عليه العدل فالجور عليه أضيق.
يكتب إلى واليه على البصرة الصحابي عثمان بن حنيف الأنصاري (رض): «يابن حنيف... فقد بلغني أن رجلا من فتية أهل البصرة دعاك إلى مأدبةٍ فأسرعت إليها تُستطاب لك الألوان، وتُنقل إليك الجفان، وما ظننت أنك تجيب إلى طعامِ قومٍ عائلهم مجفو، وغنيهم مدعو... فانظر إلى ما تقضمه من هذا المقضم، فما اشتبه عليك علمه فالفظه، وما أيقنت بطيب وجوهه فنل منه». وهو يعلم نقاط الضعف البشرية، فلم يترك الكليات إلى عمّاله ليحكموا فيها بأهوائهم أو يتذاكوا بمناوراتهم وكلماتهم المزوقة على الناس، وإنما كان يربّيهم ويوجههم ويشتد عليهم، لما يحفظ كيانهم ووجودهم وكرامتهم وسمعتهم في التاريخ.
يكتب إلى عماله على الخراج: «أما بعد... فإن من لم يحذر ما هو صائرٌ إليه لم يقدّم لنفسه ما يحرزها... فانصِفوا الناس من أنفسكم واصبروا لحوائجهم، فإنكم خزّانُ الرعية ووكلاءُ الأمة...» وبعد أن يحدّد مسئوليات أمراء جيشه، حقوقا وواجبات، يقول: «فإن أنتم لم تستقيموا على ذلك لم يكن أحدٌ أهون عليّ ممن أعوج منكم، ثم أُعظِم له العقوبة، ولا يجد فيها عندي رخصة». هذا وعمّال الخراج وأمراء الجيوش في تلك الأزمنة هم عماد الدولة، عسكريا واقتصاديا.
عليٌ الخبير بخبايا النفس البشرية وطواياها، لم يركن إلى سمعة عماله، بل كان يبعث وراءهم العيون ليستقصي سيرتهم، احتياطا لدينه، واطمئنانا لسلامة دولته، فإن الحاكم في فلسفة عليٍّ، شريكٌ في أي مظلمةٍ تمس أحدا من أبناء الشعب على يد عماله وولاته وأصحاب المصالح والنفوذ
إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"العدد 2494 - السبت 04 يوليو 2009م الموافق 11 رجب 1430هـ