إذا كانت الأفلام الروائية العراقية التي تُنتج منذ التغيير الكبير في العراق في عام 2003، تُصنف في المُجمل تحت اتجاهين رئيسين، يعكسان اللغة المحكية في هذه الأفلام وإثنية الشخصيات وجغرافيا الحكايات فيها، إلا أن هناك الكثير الذي يجمع بين الأفلام التي تنتج في مركز العراق في بغداد، وتلك التي تتخذ من كردستان مسرحاً لأحداثها، لجهة علاقتها بالماضي العراقي الدامي، وضبابية الحاضر الذي تقاربه وعنفه المستديم ، وفق ما نقلت صحيفة "الحياة" اليوم الجمعة (8 يناير / كانون الثاني 2016).
كما تشترك الأفلام في عناد صانعيها على مواصلة العمل وسط ظروف صعبة للغاية وندرة وهامشية منافذ العرض السينمائي في البلد، وفي مصادر تمويلها، التي تعتمد بشكل رئيسي على صناديق الدعم السينمائي الدولية، مع استثناءات قليلة، عندما تلتفت السلطات العراقية أحياناً لدعم الأفلام.
ونعرف أن هذا ما حدث قبل ثلاثة أعوام، عندما خصصت الحكومة العراقية مبالغ ضخمة لإنتاج مجموعة من الأفلام السينمائية العراقية، على هامش اختيار بغداد عاصمة للثقافة العربية، وهو المشروع الذي غلب عليه الفوضى وانتهى بمجمله بنتائج قانطة عن حال السينما العراقية، إذ تبين أنها -وكما النظم السياسية في البلد- عاجزة عن مغادرة مستنقع الفساد والفشل العام.
وتيرة غير منتظمة
ولعل الأمر الآخر الذي تشترك فيه الأفلام العراقية العربية والكردية هو وتيرة إنتاجها غير المنتظمة. فعام 2015 شهد عرض فيلمين روائيين طويلين فقط، الأول هو «الكعكة الصفراء» للمخرج العراقي طارق الجبوري، وهو أحد الأفلام التي أنتجت كجزء من الاحتفال ببغداد عاصمة عربية للثقافة. والفيلم الآخر هو «كلاسيكو» للمخرج الكردي الذي يعيش في النرويج هالكوت مصطفى، وهو فيلم عرض في الشهر الأخير من السنة الماضية في مسابقة المهر الطويل في مهرجان دبي السينمائي. في حين شهد العام الذي قبله (2014) عرض ثلاثة أفلام روائية طويلة هي: «رسالة إلى ملك» للمخرج الكردي المقيم في النرويج هشام زمان، و «ذكريات منقوشة على حجر» للمخرج الكردي المقيم في كردستان شوكت أمين كوركي، وأخيرا «صمت الراعي» للمخرج العراقي المقيم في بغداد رعد مشتت.
يُواصل المخرج هالكوت مصطفى في فيلمه «كلاسيكو» ما بدأه في باكورته «قلب أحمر» (2011)، بتقديم سينما اجتماعية شعبية ترتكز على تيمات عاطفية إنسانية شائعة، في حين لا تبدو الشخصيات أو محيط الحكايات في الفيلمين رازحة ظاهريا تحت مفاعيل الأحداث السياسية الكبيرة في البلد. في المقابل تقارع الشخصيات من دون نجاحات، النظم الأخلاقية والاجتماعية السائدة في الشرق كله. في «قلب أحمر» يقدم المخرج قصة حب بين فتاة وشاب كرديين يرغمان على الهرب وترك محيطهما القروي الى مدينة أربيل الواسعة، وبعد أن تبيَّن أن والد الفتاة كان يعد خطة أنانية لتزويج ابنته لشاب مقابل زواجه هو من أخت ذلك الشاب. أما الفيلم الجديد للمخرج، فهو عن قصة حب مستحيلة بين فتاة كردية جميلة وشاب قصير القامة. يقرر البطل في فيلم «كلاسيكو»، وبعد أن فشل في إقناع والد حبيبته بالزواج من ابنته، أن يبدأ رحلة طويلة عبر جغرافيا شاسعة وخطرة، ستأخذه أولاً إلى بغداد، وبعدها إلى جنوب أوروبا. كل هذا للفوز برضا والد الفتاة، والمجتمع أيضاً، وتحدي النظرات النمطية السائدة عن قصار القامة.
يُحول المخرج القرية الجبلية الكردية، حيث يعيش البطل مع أخيه وزوجة هذا الأخير (أداء مقنع كثيراً من الشقيقين في الحياة وريا ودانا أحمد)، الى ما يقترب من القرية الخيالية، المقطوعة الصلة بما حولها. فيركز بمشاهد مراقبة تمهيدية سلسة على العلاقة بين طبيعتها الجغرافية الخاصة وتفاصيل الحياة اليومية. يعمل شقيق البطل في مقهى في وسط القرية، حيث يتجمع رجال القرية لمشاهدة مباريات كرة القدم الأوروبية، وبالخصوص المباريات التي يلعب فيها فريقي: ريال مدريد وبرشلونة الإسبانيين. إلى جانب المقهى يقع الدكان الذي يشتغل فيه البطل تحت إدارة والد حبيبته، يصنعون فيه أحذية تراثية (إمعاناً في تغليف الواقع بالخيال اللذيذ).
يحلم البطل أن يرتدي النجم الإسباني المعروف كريستيانو رونالدو حذاء من صنعه يوماً. هذه المقدمة ستمهد للرحلة التي تنطلق في النصف الآخر في الفيلم، والتي سيبدأها الشقيقان للوصول إلى إسبانيا، لإهداء رونالدو الحذاء الرياضي على أمل أن يقرب هذا الفعلُ البطلَ من والد الفتاة، ويجعله يوافق على الزواج.
رحلة إلى قلب المدينة
وكحال الفيلم الأول للمخرج، ينطلق أبطال فيلم «كلاسيكو» في رحلة برية، ستأخذهم هنا إلى قلب مدينة بغداد ثم الى إسبانيا، في فعل يبدو في جزء منه أقرب إلى رغبة شخصية للمخرج الذي يعيش في النرويج منذ عام 2000 لاكتشاف مشهديات جديدة من بلاد الآباء. يقتلع الفيلم الشقيقين من قريتهما المؤسلبة الهائنة، ويقذف بهما الى صحاري مقلقة متوحشة، تفيض بالقساة، وتفصل البطلين عن وجهتهما في العاصمة بغداد للحصول على الفيزا للسفر إلى إسبانيا.
يصور المخرج بعضاً من مشاهده في بغداد، التي يدخلها البطلان بدراجتهما البخارية الكوميدية، ليبدوان كشخصيتين من عوالم أفلام «ديزني» الأميركية حلتا على مكان مجهول خطر.
ينوء الفيلم تحت هذه الانتقالة وما سيتبعها من تغييرات متواصلة في إيقاعاته، واحتفاظ شخــصيتيه بنمط الأداء نفسه، الــذي يبقى حيادياً تجاه ما يحصل من حولهما، حاملاً التصميم الـــقروي الجـــبلي نفسه، على رغم أنهما يقطعان مدينة وبلاداً عنفها واضح.
تزداد قتامة الفيلم بعد أن يتكشف للشخصيتين تعقيد الحياة خارج القرية. فبعد سلسلة من المشاهد الكوميدية للوصول إلى السفارة الإسبانية في المنطقة الخضراء في بغداد المحصنة أمنياً، يتم رفض طلب الفيزا، عندها يأخذ الفيلم منحى آخر، وبعد أن يحاول البطلان الوصول إلى إسبانيا بطريقة غير شرعية. هذا سيقود إلى مشاهد قاسية، لكن دائماً معزولة عن روح الفيلم، الذي بدأ كوميديا اجتماعيا. في واحد من تلك المشاهد، يصادف الشقيقان عراقياً شاباً كان يحاول بيع كليته بسبب الفقر. تتضاءل الكوميديا في هذا الجزء من الفيلم، وتضيق أجواؤه، ويبدأ الفصل الحزين من رحلة الشقيقين. لكن هذا لا يستدعي مراجعة جديدة للرحلة، بل يكون مُكملاً للعاطفية الشديدة والسذاجة التي أطلقتها في المقام الأول. كما يتعثر الفيلم بنهجه الذي تجنب تسمية الأشياء بمسمياتها، بخاصة عندما تحاصر شخصيتيه العلامات والإشارات المعاصرة عن واقع حقيقي مُعقد، لتخيم بثقلها على القصة الذاتية الخاصة للبطل.
لو كانت هناك صالات
لو كان العراق يملك صالات سينمائية كما كان الحال بالسابق، لكان حظ فيلـــم «كلاسيكو» في أن يكون أحد النجاحات التجارية المُدوية كبيراً، فهو يتوافر على العديد من العناصر التي يمكن أن تجذب الجمهور الواسع، بل يُمكن تخيل مشاهد بذاتها، من التي يمكن أن تطلق الضحكات والتأوهات في الصالات السينمائـــية المكتظة، كالمشهديات المهمة للبطلين من مدينة بغداد، والتي لا يزال التصوير في شوارعها ينطوي على مخاطر جمة، والمشاهد الكوميدية العديدة فيه، إضافة الى رحلة الشخصيات نفسها، ومسعاهما النبيل لنشر مزيد من التفهم لعلاقة المجتمعات الشرقية بالمختلفين عنها، وحضور كرة القدم الأوروبية ونجومها في الفيلم. والذي كان يمكن أن يكون مدخلاً جدياً للنفاذ عميقاً في ظاهرة شعبية فرق أجنبية بين جمهور شرق أوسطي، وربطها بمحاولات الهروب من الواقع المُخيب للآمال لكثر، عبر الانغماس في تشجيع رياضيين من دول بعيدة.