تأثر الفكر العربي، بعاملين رئيسيين، كان لهما الأثر المباشر، في بروز عصر التنوير العربي. الأول هو بروز محاولات سياسية عدة، تتوق للانفكاك عن الهيمنة العثمانية، والولوج في عصر كوني جديد، يستعين بالنموذج الغربي المتمدن. وكانت تجربتا محمد علي في مصر، ومدحت باشا في العراق، جسدتا هذا التوق.
أما العنصر الآخر، الذي تأثر به الفكر العربي، فهو التحولات السياسية والاقتصادية، التي سادت في الجوار الأوروبي، منذ القرن السابع عشر، وبروز عصر الأنوار في القارة الأوروبية. وقد استلهم عصر التنوير العربي، مبادئه وأفكاره، من تلك التحولات. لكن الحضور الواسع لحركة التنوير تحقق على الأرض، أثناء التحضير للثورة على الأتراك، والمطالبة بالاستقلال والسيادة، والتوق إلى تحقيق نهضة عربية شاملة. وبتلك المرحلة وما تلاها من أفكار ونظريات ورؤى معاصرة، ارتبط مشروع الحداثة العربية، في مدة ما بين الحربين العالميتين.
وفق هذا السياق، يمكن الجزم بأن ليس بإمكان الحديث عن المعاصرة، في الواقع العربي، إغفال ارتباطه باتصال العرب والمسلمين، بتاريخ وقيم وأفكار غيرهم، وبالتحولات الهائلة التي أخذت مكانها في القارة الأوروبية، وشملت مجالات الحياة كافة.
لقد وضعت تلك التحولات في المناهج السياسية، وأسلوب إدارة الحكم في الغرب، المجتمعات العربية، في موضع لا تحسد عليه، من حيث ضعف مقاومتها لجاذبية تلك الأفكار، واستحالة صمود رؤاها وتصوراتها القديمة، عن أنماط عيشها، وطرق تفكيرها.
وأمام الشعور بالوهن والعجز، عند البعض، تجاه مقاومة هذه الأفكار، وافتتان البعض الآخر بها برزت مرحلة التنوير العربية، منقسمة بين عجز وافتتان.
وفي ظل الانقسام الثقافي والاجتماعي، انقسمت النخب العربية، إلى أكثر من فريق، وأكثر من رؤية، تبعا لتقييمها وموقفها من الزحف الثقافي الأوروبي الكاسح.
ولعل قراءة المقاربة بين كتابات محمد عبده وجمال الدين الأفغاني، وعبدالرحمن الكواكبي ورفاعة رافع الطهطاوي وعبدالرحمن الشهبندر وشبلي شميل، توضح عمق الاختلاف في النظرة، بين طلائع الحداثيين العرب.
طالب المفتونون بالتحولات الأوروبية العلمية والفكرية الهائلة، بالقطع الثقافي والفكري مع الماضي، وتأسيس ثقافة جديدة، تستمد عناصرها مما أنجزته الحضارة الأوروبية. وقد رأت هذه الشريحة من النخبة، أن حاضرها المعاش قد تجاوز الماضي، بكل تبعاته، وأن ثقل الماضي بات عبئاً على نهوض الأمة وتقدمها. ولذلك طالبت بقطيعة ثقافية وفكرية شاملة مع هذا الماضي.
أما الشريحة الأخرى، من هذه النخبة، فرأت أن العرب لم يهنوا، ويضيعوا دورهم الحضاري، إلا عندما تخلوا عن عقيدتهم الإسلامية، السمحة والمنفتحة، التي مكنتهم من بناء حضارة قوية، وصلت إلى بوابات الصين شرقاً، وإسبانيا غرباً، وأن تخلي العرب عن عقيدتهم، هو الذي أودى بهم إلى مركب العجز والهوان.
بل إن بعضهم، رأى أن الحضارة الغربية، ما كان لها أن تحقق ما حققته، إلا بكونها استلهمت الدروس من جوهر العقيدة الإسلامية. وقد دفع ذلك أحد طلائع الإصلاح السياسي في مصر، الشيخ محمد عبده، حين زار باريس لأول مرة، للقول وجدت في فرنسا إسلاماً ولم أجد مسلمين، أما في مصر، فوجدت مسلمين، لكنني لم أجد إسلاماً.
إن عودة العرب لممارسة دورهم الريادي، وفق هذه الرؤية، هي بالتمسك بجوهر العقيدة الإسلامية، وبالروح التي مكنتهم في الماضي من نشر رسالتهم، إلى أرجاء الأرض.
والنتيجة أن التقدم الأوروبي في مجالات السياسة والفكر، هو الركيزة الأولى، في فكر الحداثيين، سواء منهم من حركهم الافتتان، أم أولئك الذين حركهم الخوف والشعور بالعجز أمام الموجات الكاسحة، من الحداثة الأوروبية.
لكن عصر التنوير هذا لم يتمكن من الصمود طويلاً، وسقط قبل اكتمال أركانه. وكانت لذلك أسباب عدة، لاتزال موضع خلاف بين القارئين والمحللين لتلك المرحلة. وباعتقادي الشخصي أن تلك الأسباب مركبة، ومن الصعب إحالتها إلى عنصر واحد.
فقد تزامنت مرحلة التنوير اقتصاديّاً، بانهيار الأسواق المحلية في حوض شرق وجنوب البحر الأبيض المتوسط، ما أدى إلى أن تكون ولادة مرحلة التنوير عسيرة ومشوهة. وفي ظل هذا الواقع، تخلخلت مواقع النخب الثقافية الجديدة، وتراجعت قدرتها على المساهمة، في الإبداع وبناء الأفكار. وكان تزامن ذلك مع الهجمة الكولونيالية، بعد هزيمة الأتراك، وتقاسم تركتها بين الفرنسيين والبريطانيين، قد أضاف الكثير إلى أزمة عصر التنوير.
لقد كشفت نتائج الهجمة الاستعمارية، أن الأوروبيين، لم يكونوا كما بشرت أفكارهم، وليسوا حملة رسالة إنسانية إلى البشرية. وأن أفكارهم تلك، لم تصمد أمام الزحف الأوروبي الاستعماري على المنطقة العربية. وأمام الانهيار الذي شهدته الأمة، جراء وقوعها تحت الاحتلال، لم يكن لنخبها ملجأ للإنقاذ، سوى الاستناد الى مخزونها التراثي والحضاري. وذلك أمر طبيعي، فالأمم حين تتعرض لمحاولة القضاء على استقلالها، لا تجد أمامها سوى إرثها ومخزونها الثقافي للاتكاء عليهما في مواجهة التغريب. وكهذا هزم الداعون إلى القطيعة.
مكنت هزيمة النخب العربية التنويرية، أمام الزحف الاستعماري على المنطقة، دعاة الأصالة، من البروز. فالعلة بالنسبة لهم هي في المعاصرة. وجاء تأسيس الإخوان المسلمين، العام 1929، ليكون تتويجاً لمقالة الداعين لاستبدال التنوير بالأصالة، لكن بشكلها الكاريكاتوري الكارثي. وقد بقيت تشعباتها، تفعل فعلها المدمر على الساحة حتى يومنا هذا.
كلا الاتجاهين، حملا للأسف دعوات للتغريب. فالأولى هروب إلى الأمام، والأخرى، نكوص إلى الخلف. وكلاهما تفريط في الحاضر وتغييب للمستقبل. فليس بالإمكان أن نبني حضارة، من دون أن تستمد جذورها من المحفزات الإيجابية، في الماضي التليد. كما أنه ليس بالإمكان أن نغفل عن كوننا نعيش في عصر كوني، له ماهيته وسمته. وأن الموازنة تقتضي دائما حضور الجغرافيا والتاريخ، وأن نقطة تقاطعهما هي نقطة البداية لبناء فكر جديد ونهضة جديدة.
إقرأ أيضا لـ "يوسف مكي "العدد 4871 - الخميس 07 يناير 2016م الموافق 27 ربيع الاول 1437هـ