ونحن في نهاية الأسبوع، دعونا نبحث عن «فكرة مريحة» تتناسب وراحة أبداننا خلال العطلة الأسبوعية. أقول ليس جديداً أن تكتشف ما هو يومك: أحدٌ أم اثنين أم يوم خميس. فما يُميِّز الأيام عن غيرها هو حركتنا والتزاماتنا فيها. لذلك، ترى كبار المقعَدِين من كبار السِّن (وحتى غيرهم من هواة الفراغ القاتل) تتساوى عندهم الأيام والأسابيع، بل وحتى الشهور (وربما) السنوات كذلك.
أما مَنْ هم على رأس أعمالهم وفي أتون نشاطهم وتفكيرهم وهمومهم فإنهم غير ذلك. فهم لا يتذكرون شهورهم وأسابيعهم وأيامهم فقط بل ساعاتهم ولحظاتهم أيضاً، وكأنهم في سباق مع الزمن. بل إن بعضهم لا تسَعه الذاكرة فيلجأ إلى تدوينات الورق، أو التنبيهات الالكترونية كي تجعله حاضر الذهن، لا يفوته شيء، ونحن في عصر السرعة المجنونة. هذه مقدمة لازِمة للحديث.
في هذا العصر السريع، وعندما تكون في بلدك (لنفترض البحرين)، قد تلتقط صورة، فترسلها إلى أخيك الذي يدرس في الولايات المتحدة الأميركية. أو ربما تودّ من صديقٍ أن يجلب لكَ معه من الصين نوعاً محدداً من الأجهزة الالكترونية اللوحية التي تريدها، فترسل إليه نموذجاً مصوَّراً.
ولو دققتَ في ذلك الفعل الذي قمتَ به، فستجد أن بين البحرين والولايات المتحدة (نيويورك تحديداً) زهاء الـ 14 ساعة من الطيران. وبيننا وبين الصين قرابة الـ 8 ساعات من التحليق. ولو حوّلنا تلك الساعات إلى كيلومترات فإننا سنعجز ونحن نحسبها أو نتخيّلها. فلو قطعت الطائرة 1000 كيلومتر في الساعة فهذا يعني أن بيننا وبين نيويورك 14 ألف كم، وبيننا وبين الصين 8000 كم!
لكننا وعندما أرسلنا عبر هواتفنا صورة، أو أجرينا مكالمة أرضية أو لاسلكية فإننا لم نستغرق سوى ثوانٍ معدودة كي نلتقط الصوت في الجهة الأخرى. إنها سرعة لا يتصوّرها أحد اليوم حين يُمعِن التفكير فيها، فكيف بمن عاش قبل مئة وأربعين عام تقريباً. ففي ذلك العصر لم يكن سوى البريد الحامل للقراطيس، الذي يلفّ أجزاءً من العالم المتقدم أو المناطق التي يصل إليها مستعمراً.
بدأتُ بهذه المقدمة ونحن نعيش ذكرى إجراء أول مكالمة دولية بين العاصمة البريطانية لندن ومدينة نيويورك الأميركية، وذلك في مثل هذا اليوم، السابع من شهر (يناير/ كانون الثاني 1927). وكانت محاولات أنتونيو ميوتشي وبعده غراهام بيل في اختراع وصناعة الهاتف، وإجراء مكالمات بدائية انطلاقاً من دراسات على السمع والكلام مازالت جنينية ولم تشهد تطورات كبيرة كي تجتاز المكالمات البحار. وقد غيَّر الهاتف الدولي من عادات ومتطلبات البشر فضلاً عن تأثيره على الاقتصاد والسياسة.
اليوم، وبحسب دراسات هيئات وشركات الاتصال فإن «نصف سكان العالم يستخدمون وسائل الاتصال الإلكترونية»، أي ثلاثة مليارات ومئتي مليون إنسان. أما عن شبكات الهاتف المحمول فإنها باتت تغطي 95 في المئة من سكان العالم، فالأرقام تشير إلى وجود سبعة مليارات ومئة مليون هاتف محمول. وقد تبيَّن أن ما بين العامَين 2010م و 2015م اتسع استخدام الأسر للانترنت 16 في المئة.
إذاً، لم يبقَ سوى 350 مليون إنسان معزولين عن هذه الشبكة متفرقين على مساحة الكرة الأرضية البالغة 510.072.000 كم. والحقيقة، أن الباحثين قد يجدون في أولئك البشر مادة جيدة للبحث ودراسة شئونهم وهم بعيدون عن وسائل التواصل الالكترونية. تُرى كيف يستطيعون التغلب على تحكّم الجغرافيا وسطوتها في حياتهم الاجتماعية وتواصلهم فيها، وهل هم يعيشون غربة فيما بينهم أم تحكمهم علاقات أسرية وصداقة مثلنا؟! هذا تساؤل جاد ومهم.
الحقيقة، أنني أتساءل عن ذلك، في الوقت الذي أستذكر فيه دراسة قد تعطينا فكرة مُمَهِّدة لما نريد أن نفهمه. فقد نشرت مجلة «كارانت بيولوجي»، ونقلتها وكالة «رويترز» قبل شهرين تفيد بأن ساعات النوم التي يستهلكها البشر في المجتمعات المتمدّنة هي ذاتها التي يستهلكها الإنسان في المجتمعات البدائية تقريباً، وبالتالي لم يعد وجود النت والهواتف الذكية وكثرة العمل سبباً وجيهاً لكثرة السّهر وقلة النوم، وأن تكون ساعات يومنا بحدود الست أو السبع ساعات فقط.
الدراسة رصدت شعب تسيمين في الأراضي البوليفية وقبائل هادزا في تنزانيا شرق وسط إفريقيا وشعب سان في ناميبيا جنوب غرب إفريقيا لمدة 1165 يوماً (وهي جميعها مجتمعات بدائية تعيش بدون كهرباء ولا وسائل تقنية وتعتمد على الصيد والزراعة) إنهم ينامون ست ساعات وخمساً وعشرين دقيقة في اليوم. فهم وعلى رغم الظلام الدامس فإنهم لا ينامون إلاّ بعد الغروب بثلاث ساعات ويستيقظون قبل الشروق، ولا يلجأون إلى نوم القيلولة في ساعات الهجيرة.
هذا الأمر يجعلنا نبحث ونتوسّع في دراسة المجتمعات البدائية، من هذه المسائل إلى مسائل أكثر أهمية، وهي تلك المتعلقة بالقيم والأخلاق في ظل انعدام كامل للتقنيات الحديثة والعلوم المتطورة. فعلى رغم تدنّي وضع تلك المجتمعات الفكري، فإن الدراسات أثبتت أنها كانت متواصلة مع بعضها وميّالة إلى فطرتها في التمييز بين الخير والشر في الحد الأدنى، وإيجاد نظام «عرفي» لحياتها الاجتماعية والروحية، يضبط إيقاع حركتها اليومية. وهذه الأمور أثبتتها تجارب إنثروبولوجية عميقة.
ما أودّ أن أخلص إليه هو أننا نُخطئ حين نعتقد بأن كل هذا التقدم العلمي والتقني وتغيّر هيئة البشر من العُري إلى لبس الحرير لا يعكس حقيقة تطورها. فالتقدم الحقيقي هو تقدّم القيم والسلوك البشري. فمثلما لم يَحِدّ الهاتف من تفرّق البشر وعداواتهم على رغم تقريبه للمسافات البعيدة عن بعضها، لن تَحِدّ كل هذه الصورة «الحديثة» لدنيانا من تخلفنا إذا ما بقينا أسرى للغرائز الدافعة بنا نحو العنف والصراع على أسس طائفية وإثنية.
إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"العدد 4870 - الأربعاء 06 يناير 2016م الموافق 26 ربيع الاول 1437هـ
مقال أكثر من رائع .. بارك الله فيك و كثر من أمثالك ذوي التفكير الموضوعي المنطقي والذي يطرق أبواب المعرفة بشكل ممتع
صح
البدائيون ارحم من ادعياء العقل اليوم