لا شك أن التعليم الجامعي له مهمات ثلاث: أولها التعليم على مستوى رفيع وبمنهج متميز، ثانيها البحث العلمي الإبداعي، وثالثها تخريج كوادر رفيعة المستوى تفهم معنى تطور المجتمع واحتياجاته وضروراته ومنهج تطوير الأداء. ولهذه المهمات الثلاث لا بد أن تتوافر كوادر من أساتذة الجامعات بمؤهلات ومواصفات خاصة من بين ذلك وحصول الأستاذ على درجة الدكتوراه من جامعة محترمة ومعترف بها بضمان الحد الأدنى لديه من منهج البحث العلمي ومن المعرفة العلمية، وأن يكون للأستاذ بحوث علمية في مجال تخصصه أو مؤلفات منشورة في هذا المجال، وبهذا يمكن تقييم الأستاذ من حيث درجته ومستواه، وثالثها أن يكون متميزا بالابتكار ومتابعة التطورات الحديثة في مجاله بوجه خاص، وفي المجالات الأخرى ذات الصلة الوثيقة بمجاله بوجه عام وهذا يستدعي ضرورة إتقان الأستاذ لغة أجنبية على الأقل. ولكي يضطلع الأستاذ بكل هذه المهام وتتوافر فيه كل هذه المواصفات والمؤهلات فإن الأمر يقتضي ثلاثة أمور لابد للجامعة أو المؤسسة التعليمية أن توفرها. والأمر الأول هو توافر مرتب أو معاش يكفل له حياة كريمة ومريحة، لأنه لوحظ أن بعض الأساتذة يلهثون وراء إلقاء المحاضرات هنا وهناك لكي يوفروا ضرورات المعيشة. وثانيها أن يتوافر له مكتب مريح ومناسب في الجامعة للأستاذ لكي يقوم بأعماله البحثية والتدريسية، ولكي يلتقي بطلابه ويقدم لهم النصح والتوجيه. وثالثها أن تكون معايير تقييم الأستاذ ليست منوطة بالطلاب، وإنما بأساتذة من مستواه في مجال تخصصه وأن يكون بعضهم محايدا لا يعرفه ومن ثم لا ينحاز له أو ضده عند التقييم.
وأنا أعتقد أن تقييم الطلاب للأستاذ هي وصفة خطيرة لكي تهبط بمستوى التعليم، لأن تقييم الطلاب عادة منحاز للأستاذ الذي له علاقات اجتماعية مع الطلاب، ويجاملهم في إعطاء الدرجات أو في الامتحانات، كما أن تقييم الأستاذ من زملائه فقط يفتح مجال الحزازات الشخصية وعوامل المنافسة والغيرة ونحو ذلك. هذا لا يعني إلغاء تاما لدور الطلاب أو الأساتذة الزملاء وإنما جعل ذلك لا يتجاوز 10 في المئة من التقييم العام للأستاذ المحاضر.
وأنا أحيي موقف وزارة التربية والتعليم في قرارها بشأن بعض الجامعات الخاصة وإن كانت هناك جامعات خاصة وغير خاصة تستحق أيضا وقفة تقييمية معها، من حيث خريجيها وربما بعض أساتذتها وعلى وجه الخصوص إذا ثبت كما يتردد أن بعض الأساتذة وبعض العمداء ورؤساء الأقسام يتسمون بالتحيز ضد غير أبناء جلدتهم، ويعمدون للإساءة إليهم، وعدم تجديد عقودهم وفي بلد مثل البحرين يتسم أهله بالتسامح والعقلانية والاعتدال فإن مثل هذا السلوك موضع استهجان واستياء، بل وضد مصلحة التعليم العالي في البحرين ويؤدي إلى هبوط مستواه.
وأود أن أشير إلى تجربة خاصة في أنني قمت بإجراء امتحان لعدد من خريجي جامعات بحرينية وغير بحرينية للحصول على باحث، ولم يكن التوفيق حليفي، لأن الأفراد الذين قدموا للحصول على الوظيفة إما إنهم لم يكونوا يعرفون المنهج العلمي في كتابة الموضوع أو لا يجيدون اللغة الإنجليزية، أو نجح بعضهم بأسلوب غير سليم.
كما أن جزءا آخر من تجربتي وملاحظاتي أن بعض الجامعات الخاصة تقدم للأساتذة مرتبات أو مكافأة تدريس غير مجزية، في حين تتقاضى رسوم عالية من الطلاب، أضف لما سبق أن بعض الطلاب يسعون لإقناع الأستاذ بأن إدارة الجامعة تتساهل معهم، ولنا بالطبع إشارة في مثل هذه الأقوال من الطلاب ولكن هكذا يروجون ويسيئون إلى اسم الجامعة وإدارتها.
أما التجربة الشخصية الثانية فإنه في تدريس بعض الموضوعات في جامعات بالولايات المتحدة فقط لاحظت قلة عدد الطلاب في كل مادة علمية حتى يقوم التدريس على المنهج التفاعلي، أما في بعض الجامعات بل ما يطلق عليه أكاديميات في البحرين، فإن العدد أكبر من اللازم، وهو أقرب إلى فصل كثيف في عدد طلابه، ومن ثم فلا عجب أن تدني مستوى خريجي الجامعة إلى مستوى خريجي المدارس الثانوية.
ولعلني أخيرا أشير إلى أهمية تأهيل الأستاذ وتأهيل الطلاب بصورة مستمرة وهذه مسئولية إدارة الجامعة في توفير مناهج تأهيلية وتطويرية لأساتذتها وطلابها والعاملين بها. أنا لا أستطيع أن أستوعب أن أستاذا لم يحصل على درجة الدكتوراه يقوم بالتدريس للطلاب، أو أن أستاذا ليست له بحوث علمية، أو مؤلفات، يصبح أستاذا في جامعة أي درجة أستاذ أو أستاذ مشارك يمكنه أن يكون مدرس أي بداية الطريق الجامعي وليس أعلاه.
ولا أفهم كيف أن أستاذا غير متخصص في مادته يقوم بتدريس مادة أو مقرر دراسي معين لم يدرس أصوله وجذوره ويعرف تطور وتاريخه الفكري.
وأخيرا بالنسبة لجامعة البحرين لا أعرف ما هو السر وراء عدم إنشائها قسما لتدريس العلوم السياسية والعلاقات الدولية، ولا ما هو السر في إلغاء المراكز الدولية والبحثية التي سبق إنشاؤها، ولا ما هو السبب عدم تقديمها مناهج دراسية للماجستير والدكتوراه في العديد من فروعها.
إن العمل الجامعي والدور الجامعي بالغ الخطورة في نمو الدولة وتقدمها، ومن هنا فإنني أحيي القرارات الأخيرة للمجلس الأعلى للجامعات وإن كانت في تقديري لا تزال غير كافية، وإنها جاءت متأخرة، بعد الفضيحة التي نشرتها الكويت، وطلبها من طلابها عدم تقييد أنفسهم في عدد من الجامعات البحرينية، وعدم الاعتراف بشهادات تمنحها تلك الجامعات.
إن طريق التقدم يبدأ من التعليم، ولهذا لا عجب أن قام سمو ولي العهد منذ بضعة سنوات بوضع برامج الإصلاح للتعليم وسوق العمل، ولا عيب أن قام وزير التعليم بتوجيهات من جلالة الملك وبرعاية ومساندة من سمو رئيس الوزراء بإنشاء مدارس المستقبل.
إنني أعتقد أن التعليم العالي (الجامعي) بوجه خاص في حاجة لنظرة جديدة وعقلانية وشجاعة حتى يحقق الهدف المرجو منه
إقرأ أيضا لـ "محمد نعمان جلال"العدد 2494 - السبت 04 يوليو 2009م الموافق 11 رجب 1430هـ