يمثل المؤرخ محمد علي التاجر (ت 1967) أحد رموز النهضة الفكرية والأدبية في البحرين في الربع الأول من القرن العشرين، وكان ممَّن ساهموا، إلى جانب كوكبة من رجال الفكر والأدب مثل ناصر بن جوهر الخيري (ت 1925)، وعبد الله الزايد (ت 1945) وآخرين أغنوا المشهد الفكري والأدبي في البحرين عبر نشاطهم الثقافي وكتاباتهم التاريخية ومبادراتهم الطموحة في دعم وتأسيس الأندية الثقافية والأدبية التي كانت تتطلع إلى الارتقاء بالوعي الثقافي ورعاية الحالة الأدبية في البحرين.
الحاج محمد علي بن أحمد بن عباس – المعروف بالتاجر - بن علي بن الشيخ إبراهيم بن محمد بن حسين آل نشرة البحراني. ويتضح إذاً أن لقب الأسرة هو (آل نشرة)، وهو اللقب الذي كان لجدهم الشيخ إبراهيم آل نشرة.
وأسرة التاجر تقطن اليوم مدينة المنامة، وتنحدر من قرية (الماحوز)، كما يؤرخ التاجر نفسه، عندما يقف عند شخصية الجد الشيخ إبراهيم آل نشرة (الماحوزي البحراني). ولبعض أفراد الأسرة تواجد في بعض الدول الخليجية وخصوصاً في دولة الإمارات العربية.
ولقد برزت من هذه الأسرة شخصيات علمية وأدبية، ساهمت، بقسطٍ وافرٍ، في الحركة الفكرية والأدبية في البحرين وعموم المنطقة، وكان لبعضهم أدوار رياديةً في العمل الثقافي والاجتماعي، ومن أبرز علماء هذه الأسرة الشيخ سلمان التاجر (ت 1922) شاعر الرثاء الحسيني الشهير، وابنهُ الشاعر أحمد بن سلمان التاجر (ت 1925) الذي درس في الهند والعراق، وكانت له مساهمات شعرية، والشيخ عباس بن سلمان التاجر (ت 1925)، ونجل المؤرخ التاجر علي التاجر (ت 2006) الشخصية الفكرية والأدبية التي كان لها دور ريادي في تأسيس نادي العروبة في نهاية ثلاثينات القرن الماضي.
درس محمد علي التاجر، الذي عُرف بالـ «الحاج»، في مطلع حياته لدى بعض المعلمين، ويطلق عليه البعض «الشيخ» تقديراً لمكانته الثقافية وإسهاماته في خدمة التراث والتاريخ الديني والوطني.
وتنَّقل مع والده ما بين البحرين والهند، إذ كان والده من كبار تجار اللؤلؤ إلى جانب ثقافة أدبية ودينية واسعة، إلى أن استقر به المقام في البحرين العام 1911م، إذ فتح مكتبة وجعلها ملتقى أدباء المنامة، كما كان أحد أعضاء إدارة المدرسة الجعفرية لدى تأسيسها العام 1926م، ويُعدُّ من مؤسسي دائرة الأوقاف الجعفرية، ودائرة أموال القاصرين.
وكان لشخصيته القيادية ونمط حياته الجاد والمتميز والاحترام الذي كان يتمتع به في مختلف الأوساط الاجتماعية أثرٌ في ممارسته لأدوار كبيرة اجتماعية، فقد كُلّف من قبل حاكم البحرين بمهمة عرض منصب القضاء الشرعي على الشيخ عبدالله بن إبراهيم المصلي، بما يدلل على تمتعه بقبولٍ واحترامٍ في الأوساط الدينية والرسمية.
تلقى التاجر تعليمه عند المعلم (طربوش) وهو خطاط وكاتب، ولدى خديجة بنت نصر العصفور، وهي جدة التاجر المشهور منصور العريض، حيث تعلم لديها مبادئ الحساب والقراءة والقرآن، ثم درس في مدرسة العجم أثناء سفره مع والده أثناء رحلات اللؤلؤ التجارية إلى الهند.
وقد كرس جهوده الفكرية في توثيق الحياة الأدبية والعناية بتاريخ البحرين القديم والمعاصر، وهو ما انعكس بشكل جلي في كتاباته، وكانت له مراسلات علمية مع المهتمين بتراث المنطقة الفكري والأدبي، وتحتفظ المجاميع الشعرية بنماذج من قصائده ومساجلاته الشعرية التي كان يتبادلها مع العلماء والشعراء ومثقفين.
توفي التاجر بعد حياة عريضة من النشاط الثقافي والفكري والأدبي في (21 ديسمبر/ كانون الاول 1967م) ودفن في المقبرة الكبيرة في المنامة المعروفة بمقبرة الحورة. ومن أبنائه عبدالكريم التاجر من رجال التربية والتعليم، وعلي التاجر من رجال الفكر والثقافة.
كان التاجر ذا طموح إصلاحي متوثب فقد ساهم مع ثلة من مثقفي عصره، كأخيه الشيخ سلمان، وسعد الشملان، وإبراهيم الباكر، وعلي الفاضل، ومحمد حسين العريض، وآخرين في إنشاء مكتبة إقبال أوال في منتصف العام 1913م، وهي مكتبة عامة كانت تستهدف تحصين الشباب البحريني يومذاك من التأثر بأنشطة مبشري الإرسالية الأميركية في البحرين. وقد تطورت هذه المكتبة لتكون نواة لناد ثقافي عرف بنادي إقبال أوال، ولكن سرعان ما تجمد نشاطه نتيجة الخلاف الذي دب بين المؤسسين من الشباب الناهض وعالم الدين والقاضي الشيخ قاسم بن مهزع (ت 1941).
كما قام التاجر بإنشاء مكتبة خاصة به في سوق المنامة حملت اسم (المكتبة العباسية)، وكانت تجمع فرائد التراث الثقافي من مخطوطات وكتب نادرة ووثائق لها أهميتها في تاريخ المنطقة، كانت منتدى ثقافياً للعلماء والمهتمين بالفكر والأدب من جيله، وللأسف فإن كثيراً من تلك الذخائر بيعت في المزاد العلني بعد وفاته. وقد استطاع أحد المهتمين بالتراث الأدبي والثقافي في البحرين، وهو الشيخ محمد صالح العريبي (ت 2000) إنقاذ بعضها عبر شرائها من الورثة، وتمكين بعض الباحثين والأكاديميين من الانتفاع من نفائسها.
تميز التاجر بالنباهة وقوة الحافظة، وهي العدّة الضرورية والشرط اللازم في كل باحث في التاريخ ومؤرخ معنيّ برصد أحداث الماضي ومتابعة سجلات السنوات القديمة، وكان التاجر وهو يتهيأ لخوض عُباب التاريخ ويلج مسالكه الوعرة ويتصفح دفاتره القديمة شديد الحساسية لكل ما يقرأ، ويلتقطه وعيه المستنفر لكل ما يخدم مشروعه العلمي الذي عكف عليه لسنوات طويلة، راصداً ومقتبساً وباحثاً مدققاً في الكتب ذات الطبعات القديمة والمخطوطات المجلوبة من الهند وإيران وتركيا والعراق والشام، ولم يكن من الممكن المضي في مشروع تاريخي في ضخامة وأهمية كتابي التاجر «عقود اللآل» و»منتظم الدّرّين» لو لم يكن التاجر يتمتع بذاكرة قوية، وعقل منظم، وقدرة فائقة على فرز المعلومات وترتيب النصوص وربطها ببعضها بعضاً، ثم التعليق عليها لينتهي لبلورة رأي خاص. كل ذلك في بيئة فقيرة في المصادر والمراجع العلمية، وتفتقر إلى أبسط مقومات التشجيع على العطاء العلمي في بحرين العشرينات والثلاثينات والأربعينات.
وقد ترك تراثاً علميّاً بعضه معروف ويتمثل في كتابيه التأسيسيين «عقود اللآل» و»منتظم الدّرّين»، وبعضه الآخر لايزال مخطوطاً في عهدة أفراد العائلة في إمارة دبي، فيما البعض الآخر من هذا التراث لم يُجمع بعد ويتمثل أغلبه في النصوص النثرية والمراسلات وبعض القصائد الشعرية التي كان يرسلها تباعاً لأصدقائه من الشعراء والأدباء وعلماء الدين في البحرين وخارجها.
لقد اختار التاجر أن يعيش بين الكتب، وكانت المكتبة التجارية التي افتتحها هو وأخوه الشيخ عباس هواية أكثر منها تجارة. كانت المكتبة قديمة مكتظة بالكتب، لكن الحاج التاجر يعرف موضع كل كتاب وضعه فيها منذ عشرات السنين، حيث قرأ كل كتاب موجود، وتعامل معه بمحبة وصداقة، وكان التاجر نهماً في القراءة، حيث كانت شغله الشاغل في البيت والمكتبة، في النهار والليل، حتى كلّ بصره في أيامه الأخيرة.
وكان شخصية منفتحة، وكان حريصاً على التواصل مع الكفاءات العلمية والشخصيات التي كان يأنس منها علماً وأدباً لأجل الاستفادة والمشاركة في الاهتمامات العلمية وتبادل الخبرة، وهذا ما يتكشف بوضوح في رسائله لأصدقائه التي اطلعنا على بعضها.
ولم تقتصر علاقاته الشخصية على مثقفي البحرين فحسب، بل استطاع أن ينسج علاقات صداقة متينة مع كبار مثقفي تلك الفترة في كل من العراق والكويت وشبه الجزيرة العربية.
ولقد وفرت المكتبة التجارية (المكتبة العباسية) التي افتتحها الأخوان العام 1929م في قلب سوق المنامة فرصة للتعارف وتبادل الآراء والنقاش اليومي مع المهتمين بقضايا التراث والتاريخ، وكان طواويش اللؤلؤ يلجأون لها لتداول أخبار الثقافة والأدب بعدما كسدت تجارة اللؤلؤ، كما كان يقصدها عشاق الكتب والمثقفون.
إقرأ أيضا لـ "وسام السبع"العدد 4868 - الإثنين 04 يناير 2016م الموافق 24 ربيع الاول 1437هـ
أم علي
رحمك الله يا جدي لن ننساك أبدا لقد كنت وما زلت فخرا لنا بطيبتك ومحبتك وعلمك.
جميل جدا ..
حين نستذكر العظماء من رجال ونساء الفكر والعلم والادب والعمل والتجارة وأصحاب الأيادي البيضاء في بلادنا فذلك بمثابة التكريم والترحم عليهم .. جزاك الله خيرا