لا يحتاج العرب إلى تأويل وجودهم، فهو مكشوف ومفتوح على التخبُّط والعدم. ليس اليأس هو الذي يُشِيع مثل هذه الرؤية والطرْح؛ فحتى اليأس لم يعد قادراً على تعامل العرب معه بكل تلك الأريحية والوفاء النادر. الوفاء لليأس حتى في الأدنى من وجودهم الذي نشهد. بذلك المعنى، العرب على صِلة بالحياة على مستوى المجاز فحسب، وفي الموت هم أكثر وضوحاً في المعنى.
ضمن مشهدين للعربي اليوم، الأول ذلك الذي يكون موضوعاً للذبح وانتهاك الحقوق، واستباحة الكرامة، والآخر الذي هو موضوع الوفاء بتطبيق ذلك بكل حذافيره. والأرض التي يقف عليها العربي اليوم، منذ أن هبَّت رياح الربيع العربي، تلك التي وجدت لها مصدَّات وموانع أقوى منها بحكم امتلاك الآلة وأجهزة المراقبة وأماكن العزل الرهيبة، وخبراء استجواب النوايا. تلك الأرض مازالت تعاني من اضطراب في ذاكرتها؛ لأن ممارسة ذلك الكمِّ من العنف، وطوال عقود من الخبرات جعلها أقرب إلى التوصيف الذي يبدو متورطاً في مساحة شعرية ومجازية، لكنه ينطق بالحقيقة في جانب مباشرتها المفرطة في الوقت نفسه، ويتجلَّى جانب من ذلك في مقالة أدونيس بصحيفة «الحياة» اللندنية»، التي نشرت يوم الخميس (10 ديسمبر/ كانون الأول 2015)، تحت عنوان: «أرضٌ تزرعها الذاكرة ويحصدها القتل».
الذاكرة التي لم تعد تقوم بوظائفها الاستعادية، وخصوصاً في المراحل الفاصلة والحرجة، تلك التي تستدعي ضرورة تحصين الذات، مروراً بتحصين الحاضر الذي لن ينجو من الأزمات، بل هو على موعد معها، وصولاً بالذاكرة أيضاً إلى تهيئة الأرضية والفضاءات للدخول إلى المستقبل؛ فيما الأرض في الراهن الذي يُهيمن فيه القتل، فضاء رحب لتلك الممارسة. القتل الذي لا يعترف بأن له ذاكرة كي لا يشعر بنوع من تأنيب الضمير، وكي يكون قادراً على استئناف الفعل في وحشيته القصوى.
مثل ذلك التأويل لا قيمة له أساساً في ظل هذا الانكشاف، والتعرية التي تحدِّدها طبيعة السياسات التي كثَّفت من «مجهول العرب»، من دون أن يكونوا «فعلاً مبنيّاً للمعلوم» من نهايات مصيرهم البائس؛ لأننا أمام كل صور العام والمجهول والانهيار الذي لا تقوى أية ذاكرة بشرية على الاحتفاظ به، أو تمرّ بتجربته وأطواره المتتابعة.
وعلى النقيض من تلك الرؤية للتأويل الذي يحتاج بالضرورة إلى نصوص يتم الاشتغال عليها، يُعيدنا أدونيس في مقالة أخرى كتبها بتاريخ (الأول من أكتوبر/ تشرين الأول 2015)، في الصحيفة نفسها، وحملت عنوان «لعنة المكان أم عبث التاريخ»، إلى تلك النصوص وذلك التأويل حين يكتب: «كما يموت المؤلِّفون، تموت كذلك النّصوص. لا يبقى غيرُ التّأويل»! ويكشف ذلك عن أن النصوص لا تتوخَّى الحياة، وكأن الذين كانوا من ورائها لا علاقة لهم بالحياة، وليست ذات بال فيما يكتبون، تماماً كما أن حيواتهم ليست مهمَّة بالنتائج السالبة الصادرة عن تلك الحياة؛ لأن المكان نفسه في ذلك الجزء من العالم قد تحوَّل إلى «لعنة البشر المسكونين بالزمن»، بحسب تعبير الكاتب والأكاديمي الفرنسي، ريجيس ديبريه، مُنظِّم ما يُعرف بـ «الميديولوجيا»، أوعلم الميديا، المختص بدراسة وسائل الاتصال والتواصل في تأثيرها على الإنسان من ناحية تشكُّل الوعي والتأثير الإيديولوجي وفرض قيم ومفاهيم جديدة.
أنجب ذلك المكان «إنساناً» تفتَّقت كل مواهبه الوحشية في صور لم يكن يُخيَّل أن الذهنية البشرية يمكن أن تقبض عليها، وتحديداً مع بداية الألفية الجديدة، والتي من المفترض أن تكون مرحلة انعطاف في الوعي البشري، ومرحلة تحوُّل كبرى في طريقة التفكير والنظر، وتوسُّع القرية العالمية باستيعابها للجنس البشري وحقه في الحصول على حصة عادلة من المعرفة، كما هو حقه في الحصول على حصة عادلة من القيمة والحقوق. هو نفسه الإنسان الذي تناوله أدونيس في «لعنة المكان أم عبث التاريخ»، بالتساؤل الذي لا ينتظر إجابة: «أنتَ، يا مَن يُريد أن يغيِّر هذا العالم، لماذا لا تتسلّحُ إلّا بالقَتْل؟
ضوء
«لا أطلب من أيّ عربيّ أن يتأمّل أو يحلِّل. ولا أريد منه أيَّ جواب. أرجو منه، حصراً، أن يتكرّم بالنظر، مجرّد النّظر إلى الجغرافيا العربية وإلى خرائطها... مجرّد النّظر إلى (الشُّهُب) التي تنهمر عليها من جميع الجهات، من داخلٍ وخارج، من أسفل وأعلى، مجرّد النّظر إلى (جسمها) كيف يُركَلُ ويُهانُ ويُقَطَّع... كلّا لا أطلبُ إلّا أن يَطرحَ كلٌّ منهم على نفسه هذا السؤال: مَنْ أنا - مَنْ نحن»؟
أدونيس
إقرأ أيضا لـ "جعفر الجمري"العدد 4867 - الأحد 03 يناير 2016م الموافق 23 ربيع الاول 1437هـ