صدر الجزء السابع من سلسلة كتاب «أطياف» عن هيئة الثقافة والتراث، «عبدالرحمن رفيع... الحكاية في لقطة شِعْر»، قام بتحريره الكاتب والمسرحي خالد الرويعي، بمناسبة رحيل الشاعر البحريني عبدالرحمن رفيع. شارك في الإصدار عدد من الكتَّاب والشعراء البحرينيين وهم كالآتي: إبراهيم بوهندي، جعفر الجمري، حسن كمال، خليفة اللحدان، خليفة بن عربي، عبدالجليل السعد، علي الشرقاوي، ويوسف شويطر.
تناولت الكتابات الدور البارز الذي لعبه رفيع في المشهد الشعري والثقافي البحريني طوال عقود، بتلك القدرة على المواءمة بين ما يبدو أنهما مشروعان شعريان متباينان: العامي والفصيح، فيما يشكِّلان وحدة موضوعية في ذهاب رفيع إلى الحكاية الشعبية من خلال الشعر، والشعر باعتباره لسان حال الشعب، في تناغم مُلفت وجامع بين طبقات مُهمَّشة تشدُّها الحكاية، وأخرى يُنظر إليها باعتبارها خارج نطاق تلك الطبقات، ويتحقق ذلك بقدرة رفيع على كسْر وتحطيم تلك العوازل واصطناع المرجعيات المغلقة التي ترتبط بكل فئة وطبقة من تلك الطبقات، بالانفتاح على الشعر كما هو، من دون تصنّع أو ادِّعاء. كما تناولت الكتابات العلاقات الإنسانية التي ارتبط بها الشاعر، وتجاوزها إلى حدود أبعد من أن تُحدَّ بجغرافية وطنه، امتداداً إلى بلدان أخرى.
الكتاب جاء ضمن سلسلة «أطياف» التي تُصدرها هيئة الثقافة والتراث بمملكة البحرين، ضمن مبادرة حفاوة بمهرجان تاء الشباب، وهو الجزء السابع من السلسلة، وحمل مساهمات من الكتَّاب المشاركين جاءت بعناوين كالآتي: «المبدع لا يموت»، لابن هندي، «رفيع لم يكن حكواتياً... كان فاعلاً وشاهداً»، للجمري، «حياة ورفاق وبينهم شاعر»، لكمال، «جماليات الشعر العامي»، للحدان، «اجتماعية النص في شعر عبدالرحمن رفيع»، لابن عربي، «الغائب الحاضر»، للسعد، «مفردة الشعر مازالت سرَّاً مُغلقاً»، للشرقاوي، و «قليل من فكاهة... قليل من سِحْر»، لشويطر.
بورتريه الصوت والذاكرة
صدَّرتْ للكتاب رئيسة هيئة الثقافة والتراث مي بنت محمد آل خليفة، بحال من استدعاء بدايات المشروع الذي تكرَّس لتكريم عدد من الأصوات الإبداعية الفاعلة والمؤثِّرة في المشهد الثقافي والإبداعي «سلسلة أطياف من مبادرة حفاوة بمهرجان تاء الشباب، تستردُّ في نسختها السابعة أثر شاعرنا عبدالرحمن رفيع... تنسج بورتريهاً لصوته وذاكرته، تماماً كما يعرفها ويألفها تلامذته، المتأثِّرون به، والذين التقوا به في الثقافة عموماً والشعر على وجه التحديد».
مضيفة أن «البحريني عبدالرحمن رفيع، الذي تحدَّث طويلاً عن المشترك الجميل والحقيقي في اليوميات والوطن والإنسانيات، كان يتقاسم ما يُريد قوله معنا، قبل أن نكتشف في وقت لاحق أن هذا المكان الذي عليه نعيش، كان ينبت أخضر وفارعاً فيه».
مُعرِّجة على الإصدار الذي يحتفي «للمرة الثانية بإحدى القامات البحرينية بعد الأستاذ الناقد محمد البنكي، ويهيِّئ مساحة شاسعة لسيرة هذا الشاعر البحريني الكبير، وذلك من خلال احتفاء واقتفاء نقدي ومفاتيح بحثية لعدد من الكتَّاب والباحثين، من مقتفي سيرة رفيع لإعادة اكتشاف هذا الإنسان... رصد وقراءات جمالية لإبداعاته الشعرية التي رافقت الحضور فبقيتْ».
كلمة التحرير التي وضعها الكاتب والمسرحي خالد الرويعي، اشتغلت على ثنائية الكتابة باللهجة العامية والكتابة بالفصحى في فضاء الكتابة العربية، متوقِّفاً عند الاهتمام النقدي الذي يذهب بتركيزه على الثانية، مشيراً إلى أن رفيع «طوَّع سيرة الناس وصاغها شعراً، بل قُلْ حكاية في روح الشعر، فأصبح شعر رفيع متنفَّس الناس وكلامهم الذي يغرقون فيه من دون أن ينبسوا به». كما تناول اللقطة السينمائية التي يكتنز بها شعر رفيع، قائلاً في هذا الصدد: «يتصف جمال الشعر العامي لدى رفيع بأن الأُذُن تطرب لسماعه وإلى لذَّة أسلوبه في الإلقاء، فكأنَّ ما تسمعه جزءاً من لقطة سينمائية تستعرض لك الحياة بنكهة الشعر، وهو أيضاً ما يميِّزه في سيرته الشعرية، وكأنما عليك هنا أن تدرس أيضاً لغة الجسد التي يبرع فيها، وتلك الإيماءات والإشارات لحظة تواجده خلف المنصَّة».
التمهيد للدور الجديد
من رُوح رفيع التي معنا، بدأت مساهمة بوهندي التي حملت عنوان «المبدع لا يموت»، «معنا كلما حضر الشعر زاهراً بالمحبَّة والفرح، وهي تتجلَّى في تلك المفردات الأصيلة، والصور الحيَّة التي تُجسِّد حركة الحياة في التنقُّل بين أجيال الزمن الجميل وما بعدها»، مُختتماً بوهندي مساهمته بشهادة للشاعر والأكاديمي علوي الهاشمي، والذي يستشهد هو الآخر بالطائي، بقوله: «إن كان غازي القصيبي قد جسَّد طموح العريِّض، وحقَّق أحلامه الفنية الشكلية إلى حدٍّ كبير، فإن رفيع جسَّد طموح المعاودة في تصوير الواقع ضمن أدقِّ تفاصيله وأحداثه ومناسباته، مع اهتمام قليل بالشكل الفني، فقد جاء شعره، كما لاحظ الطائي، موضوعياً يُعالج بعض المشاكل اليومية»، مضيفاً «هي شهادة تفتح أفق التجربة الشعرية الجديدة في البحرين على حقائق الواقع وقضاياه المعيشية لتتجسَّد للمرة الأولى في شكل شعري جديد هو نظام التفعيلة. وهذا ما عناه الطائي حين لاحظ أن رفيع مهَّد لدور علي عبدالله خليفة وقاسم حدَّاد».
وفي تقاطع مع وجهات النظر التي أصبحت شبه قارَّة ومُتفقاً عليها، تلك التي جعلت من رفيع «حكواتياً»، تغافلاً عن فضاء تجربته الشعرية عموماً، يكتب واضع المُراجعة تحت عنوان «رفيع لم يكن حكواتياً... كان فاعلاً وشاهداً»، إن رفيع لم يتقمَّص دور الحكواتي كما يحلو لبعض الكتَّاب أن يصفوه. الحكواتي ناقل، ولم يفعل رفيع، بقدرته على صوغ الحكاية في كثافة مواقفها الساخرة، تلك التي يستلُّها من البيئة الشعبية من حيث تخيّل حدوثها، وليس اشتغالاً عليها بعد حدوثها؛ إذ كان في شعره العامي يبتكر شخصياته وأرواحها وقدرتها على الإبهاج.
إغفال المشهديات الساخرة والصادمة التي ابتكرها رفيع هو مبعث رفض وصفه بالحكواتي، بقدرته على المزج بين فنون إبداعية متعدِّدة في النص الواحد.
الحياة... الرفاق
«حياة، ورفاق، وبينهم شاعر»، عنوان مساهمة الشاعر والإعلامي حسن كمال، بدأها بلمحة من ذاكرة النشأة الأولى، تدرُّجاً في سِنِي عمره، بلوغاً إلى العاصمة المصرية (القاهرة)، وأثرها على تكوينه النفسي والإبداعي، وصحبته مع الشاعر والأديب غازي القصيبي، حيث شكَّلا وقتها ملامح لمرحلة تُضاف إلى المرحلة التي أسَّسها شاعر البحرين إبراهيم العريض، في حضور فاعليه وحراك الإبداع البحريني والخليجي عموماً في المدى والفضاء العربي من المنامة إلى طنجة؛ عُروجاً إلى تفاصيل تمسُّه في صورة شخصية لا تنفصل عن طبيعته وحيويته، وشهادات من رفقة دربه في الكتابة والعلاقة الإنسانية المنفتحة. إضافة إلى المساجلة الشعرية بين رفيع وكمال في تجربتيْ الشعر الفصيح والعامي.
الشاعر خليفة اللحدان جاءت مساهمته بعنوان «جماليات الشعر العامي»، احتلَّت السيرة مساحة كبيرة منها، إضافة إلى استدعاء عدد من نصوصه العامية التي أخذت شهرتها في البحرين ومنطقة الخليج العربي، وخصوصاً نصه «الشِّعْري الربْعه بثمان». اللحدان يرى أن عبدالرحمن رفيع «شاعر متمكِّن من لغته الفصحى. يكتب قصائد عامية تهز النفوس وتمتلك المشاعر، وتصبح حديث الناس والأوساط، يحفظها الكبير والصغير، لقد مسَّت وتراً حسَّاساً في نفوسهم تعبِّر عمَّا يشعرون به دون زيف أو تزويغ».
يُمكن القول إن مساهمة أستاذ النقد الحديث في جامعة البحرين، خليفة بن عربي، والتي جاءت بعنوان «اجتماعية النص في شعر عبدالرحمن رفيع»، هي الأكثر رصانة ومنهجية في الكتاب؛ وخصوصاً في مقدِّمته التي تناول فيها انطلاق الاتجاه الاجتماعي من مفهوم فكرة الارتباط بين الأدب والمجتمع، والالتزام الذي يجب أن يُبديه الأول في حركته التفاعلية مع مكوِّنات الوسط الاجتماعي.
الإمساك بالتفاصيل
وفي تناوله للدور الذي لعبه رفيع في حركة الشعر البحريني، والتجربة الشعبية خصوصاً، والتي تُعدُّ الأرحب في التجربة قال ابن عربي، إن «الشعر الشعبي هو شعر نابع من ضمير الحياة اليومية، ولذلك فإنه (رفيع) استغلَّ اللغة العامية لغة الإنسان اليومي، وربما وجد رفيع نفسه في هذا اللون الشعري يستطيع أن يطول تفاصيل دقيقة من الحياة اليومية بلغة ساهرة في أغلب الأحيان. هذه الممارسة جعلت من تجربته الاجتماعية تجربة غنية وثرية بالعديد من التقاطعات والتمثُّلات المهمَّة في عموم تجربته».
ويخلص ابن عربي إلى أن تجربة عبدالرحمن رفيع الشعرية في إطار الاتجاه الاجتماعي، هي تجربة نابعة من معاناة حقيقية، وتماس عميق مع الواقع المُعاش، ضمن عدَّة صور وسياقات تتداخل فيها الإخوانيات بالواقع السياسي للأمة بتفاصيل حياتية صغيرة جداً، وبعدَّة أشكال تجتمع فيها الفكاهة والطرافة والسرد الشعري والمفاجأة القصصية «فجعلت من تجربة رفيع تجربة قريبة جداً من قلب المتلقِّي العادي مهما كان مستوى ثقافته، فيكفيه أن نصوص رفيع تعبير عن ذاته هو، لتقول ما تريد أن تقوله».
«الغائب الحاضر»، عنوان مساهمة الباحث عبدالجليل السعد، لم تنشغل بالجانب الفني من نصوص رفيع، بقدر ما كانت نوعاً من البوح. كتابة امتلأت بكثير من العاطفة، وإن تلمَّست محطات في حياة الراحل وعلاقاته بالأصدقاء، وأول معرفة السعد به. ذلك النوع من الكتابة يأتي بفعل الفقد ربما؛ لذا تنأى وسط ذلك الدفق عن الوقوف على التجربة من حيث تأثيرها في الوسط الذي وجدت فيه، أو من حيث مراحل تطورها، وانحيازها لاتجاه دون آخر. ولعل مطلع مساهمته يؤكِّد ما ذهبنا إليه من رأي أو انطباع «الكتابة في الراحلين مؤلمة لقدر الفرحة في ممارستها علناً دون خوف أو بكاء أو دموع، والكتابة فيمن تعرف غير فيمن لم تعرف، عدا بالسماع أو الإخبار أو الإعجاب، وعبدالرحمن رفيع ممن ينطبق عليهم كل هذا، من معرفة وحب وعدم معرفة، ومعرفة وثيقة وحميمية، مُتشاركاً معه، في كل هذا الكثير من الأفراح والأوجاع».
حقيبة الكتب... المطوَّعة
الشاعر علي الشرقاوي، في مساهمته التي جاءت بعنوان «مُفردة الشعر مازالت سرَّاً مُغلقاً»، والتي استند في كثير من تناولها إلى لقاء أجراه الصحافي عبدالغني بوضمرة في صحيفة «العرب» مع الشاعر الراحل، بدأ بالسيرة... المكان الأول، متَّكئاً على ما أدلى به رفيع حول نشأته الأولى في اللقاء المذكور «ولدتُ في المنامة سنة 1938، في بيت متمسِّك بالدِّين تمسُّكاً كبيراً، كان الكتاب الوحيد الموجود في منزلنا هو القرآن الكريم».
وقصة عابرة للحقيبة التي نزلت عليه وهي مليئة بأمَّهات الكتب، تلك التي أهداها إياه والده، لتبدأ تشكيل وعيه، وليبدأ من الحقيبة تلك رحلته الطويلة مع عالم منهك ولكنه لذيذ.
«المطوَّعة» التي درس على يدها القرآن الكريم، لم ينسَ شهادته وفضلها عليه؛ إذ أصَّلت فيه اللغة القرآنية... رفيقه وصديقه الشاعر غازي القصيبي وسنوات دراسة القانون في العاصمة المصرية (القاهرة)، الانضواء المؤقت تحت مظلَّة الإخوان المسلمين لفترة من الزمن، وبعدها إلى حزب البعث «بشكل سطحي»، كما ورد في اللقاء نفسه «وأخيراً فضَّل أن يكون مستقلاً، ويتفاعل مع كل الاتجاهات».
في اللقاء نفسه يشير الشرقاوي إلى ردِّ رفيع على سؤال يتعلَّق بوجود انعكاس سلبي للشعر الشعبي على الفصيح، بحكاية تاريخية مفادها أن أحمد شوقي كان يردِّد بأنه يخشى على الشعر من شاعر العامية بيرم التونسي «والحقيقة أن أحمد شوقي كان يغار من بيرم؛ بدليل أن شوقي اتجه إلى الشعر العامي لاحقاً، وكتب الأغاني بالعامية لمحمد عبدالوهاب».
ويختم الشرقاوي «يبقى عبدالرحمن رفيع خالقاً لعالمه الخاص ولتجربته المميزة، يبقى شاعراً أثَّر في عدَّة أجيال على جميع المستويات الفنية والثقافية».
وتَر القبول الجماهيري
يوسف شويطر في مساهمته «قليل من فكاهة... قليل من سِحْر»، مسَّ بشكل مباشر تركيز تجربة رفيع على ما وجده الفضاء اللائق به والجميل الذي يجعله على تماس مع جماهيره. لم يوغل كثيراً في فنيات تلك التجربة؛ بل لم ينشغل بها أساساً.
«... ربما يكون (عبدالرحمن رفيع) أول شاعر بحريني يتميَّز بالطراز الفكاهي الشعبي؛ حيث إن بعضاً من قصائده التي تحمل الطابع الجاد لم يلاقِ قبولاً وانتشاراً واسعاً كما هو موجود في القصيدة الفكاهية الاجتماعية، فاستغلَّ رفيع السرد الروائي في القصيدة الشعبية استغلالاً أمثل كما هو واضح في قصيدة (سوالف أمي العُودة)».
مُشيراً إلى أن عبدالرحمن رفيع «كتبَ أشعاره على وتر القبول الجماهيري المُستحبّ فأخذ يجري على هذا الممشى الأدبي إلى أن وصل إلى أكبر شريحة جماهيرية شعرية».
مشروع مهم ويقدِّم صورة من الوفاء، نأمل من هيئة الثقافة والتراث، أن تُحدث نقلة نوعية فيه بعدم حصْره على الراحلين، وذلك جزء من حقهم علينا جميعاً، وتطويره ليكون إضاءة للكبار والفاعلين في حياتنا الثقافية في البحرين ودول الخليج وغيرها من الأقطار العربية، قبل أن يستبد بهم الرحيل، وماداموا بيننا؛ علاوة على ضرورة أن يتم تعميق المساهمات من حيث جدّتها، ومنهجيتها، بعيداً عن لغة الرثاء التي كثيراً ما تنحجب عنها رؤية الفعل والأثر كما يجب، وبشكل عميق.
مثل هذه المشاريع تقدِّم الإضاءات وهي طازجة -أعني الاهتمام بالأحياء - في خطتها، ولو كنا نهتم بالأحياء منا، لما اضطررنا إلى ننجز مشاريع تبدو متأخرة في توقيتها، ومُنشغلة بالرثاء في كثير من الأحيان.
يُذكر أن سلسلة كتاب «أطياف» صدرت منه ستة أجزاء وهي بحسب الترتيب: «دريدا بأثر رجعي»، «إرجاء مُغاير»، «أركون فكر الأنسنة»، «المسيري... فكر لا يأفل نجمه»، «ضمير الرواية العربية... نجيب محفوظ»، و «القصيبي... طيف التلاوين».