يُثبِّت الباحث والأكاديمي محمد السلمان في كتابه «محمد عوَّاد... فنان لكل العصور»، سيرة واحد من روَّاد المسرح البحريني والخليجي، ويقف على المحطات المهمَّة والمفصلية في حياته الفنية، والمسرحية خصوصاً. إنه المسرحي محمد هتيمي عوَّاد العاصمي القحطاني. من أبيه (هتيمي) الرجل البسيط في حواري القضيبية، مروراً بولادته ومن بعد ذلك التحاقه في العام 1957 بأسرة هواة الفن، إظهاراً لموهبته في التأليف والإخراج، ضمن فضاء المسرح المرتجل، وتجربة دراسته في بريطانيا، وما تلا ذلك من محطات لم تخْلُ من إحباطات وألم نفسي.
لا أميل - وكثيرون أيضاً يفعلون ذلك - إلى التفخيم في العناوين، وإن استخدمت مجازاً، أو اختزالاً لمراحل زمنية عمَّقتها التجارب وعلَّمتها أيضاً، أن الفن الذي لا ينحاز إلى الإنسان وإلى الأرض، يظل فناً يعاني من إشكالاته الفارغة والمُعلَّقة دون يتحدَّد له دور في وضع حدٍّ لها، أو التخفيف من حدَّتها واحتوائها.
بذلك التدرُّج والتنوُّع، والهدوء في الاشتغال على التجربة، والصبر على ضريبتها في الوقت نفسه، يمكن لنا ألَّا نتحسَّس من العنوان الذي اختاره السلمان، مدخلاً رئيساً لتناول تجربة الفنان عوَّاد الثرية والملفتة.
تذهب السيرة التي يكتبها سلمان في طريق تأكيد أن الفنان محمد عوَّاد ظل مُؤمناً بأن كل فنٍّ لا يُوسِّع مساحات التنوير فيما يُقدِّم، كتابة وأداء وإخراجاً، هو جزء من الظلام ودرع حصينة لاستمراره وهيمنته.
وفي تقصِّي السلمان لسيرة عوَّاد، يقف على المؤديات التي أخذت بالشاب وهو يشق طريقه نحو عالم الفن الذي ظل مؤمناً أنه منه ومن خلاله يمكن معالجة أوجه القصور والعجز والضعف والهامش الذي يعيشه بلده، وإنسان بلده.
ولا يُقدِّم ذلك التقصِّي ثبْتاً بتلك السيرة، بقدر ما يقدِّم ثبتاً بالإنجاز، والتراكم الذي حدث لمسيرة عوَّاد، وهو تراكم لم يستعجله، ولم يكن مهووساً باحتلال الحضور فيه، بقدر ما كان منشغلاً بأثر ذلك الحضور، وأثر ذلك التراكم على عملية التغيير الذي يمكن للفن أن يلعب دوراً في تحقيقها، وتجذيرها في أي مجتمع من المجتمعات، إذا ما تم الالتفات إلى الصيَغ، وتم تقديم المفاهيم التي يُراد معالجتها في أساليب لا تجنح إلى التسطيح، ولا تذهب في اتجاه الاستفزاز للاستفزاز ذاته.
مسرح الاتحاد الشعبي
في العام 1970، يُتاح لعوَّاد أن يدخل مسرح الاتحاد الشعبي، ليتعرَّف هناك على «المجموعة التي سيشكِّل معها مستقبل الحركة المسرحية البحرينية الحديثة عبْر مسرح أوال»، وجميعهم من الفنانين الذين تركوا بصمات واضحة وذات تأثير كبير على حركة المسرح البحريني، امتداداً إلى المسرح الخليجي. من بين أولئك الفنانين، عبدالله يوسف (الفنان متنوِّع الاهتمامات بشكل يدعو إلى الإعجاب)،، خليفة العريفي، إذ لم يكتفِ بدوره هنا، بل كانت له بصمات واضحة ومؤثرة على المسرح الإماراتي فترة إقامته هناك، راشد نجم، راشد المعاودة، وعبدالرحمن بركات، لينجز عمله «كرسي عتيق» الذي سيضعه في حسبان ما سيتم تأريخه لحركة المسرح في البحرين والمنطقة، وذلك في العام 1971.
في المحطات التي يقف عليها السلمان، أو ما أسماها السنوات المفصلية، يمرُّ مروراً على الأهم فيها، من دون أن ينشغل بالتفاصيل إلا ما يحتاج إلى إضاءة أكبر، كجزء من إحكام الصورة، أو السيرة؛ حيث السنة المفصلية الرابعة في العام 1974، تلك التي حملته «منحة قسم المسرح بوزارة العمل والشئون الاجتماعية بالتعاون مع المجلس الثقافي البريطاني في البحرين على جناح السرعة إلى عاصمة الضباب (لندن) للدراسة في أكاديمية لندن للموسيقى والفنون الدرامية، وامتدَّت دراسته هناك حتى العام 1975».
وقوفاً على السنة المفصلية الخامسة في حياة الفنان محمد عوَّاد، في العام 1976، حين حط رحاله في دولة قطر الشقيقة، ولمدة خمس سنوات، التفاتاً من الدولة الشقيقة إلى إمكاناته وموهبته، بعد عودته من بريطانيا، وما رافق العودة من إحباط، تمثَّل في عدم أخذه المكانة التي يمكن من خلالها تقديم جانب من تلك الخبرات، وما تعلَّمه لسنوات في بريطانيا.
ظل فنان الارتجال بامتياز على رغم درايته ومعرفته وتحصيله الأكاديمي، لأنه فن الحياة بامتياز، بتلك الحرارة والدفء الذي يمكن أن يكون مُوصِّلاً سريعاً ومقنعاً للذين تقدَّم حيواتهم على خشبة المسرح.
المجلات فضاؤه على الفن
لابد من الاتكاء على ذاكرة الفنان نفسه، كي يمكن الوقوف على تفاصيل تلك التجربة، والمنابع التي وردها كي يبدأ في تعهُّد وتربية والسهر على تلك التجربة، بدءاً من المجلات المصرية القديمة التي كانت النافذة الأرحب المطلِّة على ذلك الفن، في جزء من العالم لم يكن الفن يشكِّل عماد وجوده الحضاري.
«كان أحد طلبة الفصل معنا من المتفوقين، وعنده أخ مولع بشراء المجلات الفنية المصرية مثل: (دنيا الفن والاثنين)، فكان هذا الطالب يُعيد بيع مجلات شقيقه لي بعد أن ينتهي من قراءتها. وكنت أشتريها بسعر ثلاث روبيات هندية، وقد استطعت شراء تلك المجلات في ذلك الوقت لأن حالة أسْرتنا كانت ميسورة ووالدي - رحمه الله - لم يكن يتردَّد في دعم دراستي وحبي للفن أيضاً، بل هو من كان يقف ورائي في أول بداياتي العلمية والفنية لأني كنت وحيده من الذكور ويعزّني جداً، بالإضافة إلى أني لم أكن مُشاغباً ولا عاصياً».
يسمِّيها الباحث والأكاديمي السلمان، «الصُدفة (المصادفة) هي التي قادت عوَّاد لدخول سلك التدريس في وزارة التربية والتعليم، في أواخر العام 1956، وكانت البحرين وقتها «تعيش أوْج إرهاصات حركتها الوطنية بين هيئة الاتحاد الوطني، وسلطة المستشار البريطاني تشارلز بلجريف، وما رافقها من أحداث متلاحقة أدَّت في نهاية الأمر لسجن أعضاء هيئة الاتحاد في السادس من نوفمبر/ تشرين الثاني 1956».
ومن مرحلة تعيينه مدرِّساً للفنون التشكيلية في المدرسة الغربية، وزواجه في 14 يوليو/ تموز 1958، وتجربته الأولى في السفر إلى الجمهورية العربية المتحدة التي كانت تضمُّ مصر وسورية، ودراسته المسرح في معهد الفنون الجميلة في مصر، ومغادرته إلى لبنان، ومن ثم عودته إلى البحرين، يتابع السلمان كل المحطات تلك، كما يقف على شهادة عوَّاد على تلك التجربة، في أحد الاستدراجات؛ حيث قال: «كان طموحي أن أدرس المسرح بشكل أكاديمي في القاهرة حتى أطوِّر قدراتي الفنية علمياً. بداية جاهدت وحدي فحصلت على قبول بمعهد الفنون الجميلة بالزمالك، وانتظمت في الدراسة مع العام الدراسي 1960-1961م، إلا أنني في نهاية أكتوبر/ تشرين الأول، اكتشفت عدم استطاعتي مواصلة الدراسة التي أحبها، لضيق الموارد المالية، وصعوبة الحياة المعيشية، وازدياد تكاليف الدراسة نفسها. لقد أحسسْت أنني أثقلت على والدي من جديد، وخصوصاً أني كنت مدرِّساً وأعيل نفسي، وبعد أن تزوَّجت صرت أتولَّى أمور عائلتي المادية أيضاً، لا راتب لديَّ، ولا دعم من الدولة توفِّره (...)».
كرسي عتيق
من ضمن التجارب المتعدِّدة التي خاضها الفنان عوَّاد، تأسيسه لفرقته الفنية الخاصة. كان ذلك في العام 1968، حين ترك أسرة الفن، ليطلق عليها اسم «فرقة المسرح الكوميدي»، واتخذت من النادي الأهلي مقراً لها، وممن ساهم معه في تأسيسها كل من: جاسم شريدة، عبدالرحمن بركات، وعبدالله وليد. وتولَّى في تلك المرحلة مهام التأليف والإخراج، بدءاً من العمل الأول للفرقة «عايلة خريش - دبلوماسية بوجوهر - والكرة سنة 1999»،
كانت الانطلاقة في اتجاه مسرح حقيقي أكثر وعياً والتزاماً وفهماً لشروطه ومتطلَّباته، في العام 1969، بعد التعرُّف على الفرقة المسرحية الجديدة في المحرق وكان اسمها «مسرح الاتحاد الشعبي»، إلا أن ما يشبه التقاطع حدث بالانطباع الذي خرج به، وتقييمه لبعض الأشخاص في المسرح المذكور، وتوجهاتهم الفنية، والهم والالتزام الذي كان يشغل مساحة كبيرة من تفكيره، بالتركيز على الموضوعات والقضايا التي تعالج المشكلات والظواهر التي كان يعاني منها مجتمعه؛ فيما مسرح الاتحاد وقتها ظل منشغلاْ ومُركِّزاً على المسرح التاريخي من جهة، والنصوص العالمية من جهة أخرى. إلى أن حدث الانفصال عن «الاتحاد».
لتأتي مسرحية «كرسي عتيق» تلك التي تروي قصة موظف لم يأخذ إجازة طوال فترة عمله، ويوم أن قرر ذلك، وفي فترة غيابه اكتشف الموظف الجديد فساداً كبيرة في الدائرة التي يعمل فيها الموظف الأول. وبعد دخوله في مسابقة لكتابة النص المسرحي اضطر لسحب النص من المسابقة حين طلبت دائرة العمل نصاً مسرحياً يمكن مشاهدته كأحد متطلبات الترخيص للفرقة.
وبحسب شهادة عوَّاد «وبنص (كرسي عتيق)، بدأنا نعمل على المسرح الحقيقي الذي كنّا ننشده»، وعمد عوّاد إلى اختيار طاقم الممثلين في المسرحية، وضم كلاً من: خليفة العريفي، عبدالله يوسف، راشد نجم، ويوسف عبدالرحيم. وتمت التدريبات على مسرح النادي الأهلي، وبالمسرحية المذكورة تم افتتاح النشاط الأول لفرقة المسرح البحريني، وإخراجها على مسرح النادي الأهلي بالمنامة في مقره القديم قرب سينما أوال في موقعها الحالي «وذلك ابتداء من 14 يناير 1971، وقد كان سعر التذكرة من فئتين: درجة أولى بـ 500 فلس، والثانية بـ 250 فلساً».
إلغاء العرْض المسرحي
لم تخْلُ الرحلة تلك، بكل غناها وثرائها من كثير من الاحباطات، لكنها لم تترك الرجل نهْباً لها، وظل محافظاً على حضوره، وأعماله الفارقة التي تتلمَّس طرق معالجاتها، وانتخابها لم هو قارٌّ وقائم في طبيعة المجتمع الذي ينتمي إليه، ويتوجَّه بالفن الذي يقدِّمه نحو استشراف مستقبل أجمل، وأكثر قدرة على تقديم إنسان هذه الأرض، كما هو بكل إمكاناته، وقدرته على تجاوز أزماته ومشكلاته، وإحباطاته أيضاً، ذلك الدور الذي لم يكفَّ عن تأديته.
لا يُمكن الإحاطة بالتجربة كلها، عبْر هذه المساحة المُحدَّدة، لكن البدايات تكشف لنا عن فنان عميق وملتزم، وعلى قدْر من التأهيل والتجربة والخبرات، وأخذت التجربة طريقها إلى النضج أكثر وأكثر، بالنشاط والإنجاز مع مسرح أوال، ومع تجربة مسرحيته «الحارس» على مسرح الجفير يوم 23 أبريل/ نيسان 1983، والتي لم يُقدَّر لها أن ترى النور وقتها بعد قرار مفاجئ بإلغاء العرْض، وبحسب الباحث السلمان «أُجهضت تجربة محمد عوَّاد في الإخراج الأكاديمي الحديث، مع أنه وافق، وفي ظل ظروف المسرح المتردِّية، أن يحرث في البحر الذي أُلقي فيه، وقِيل له إياك وأن تبتلَّ بمياهه».
ويكشف جانب من شهادة عوَّاد عمَّا أسواه «توقُّف الطموح»، ولا طموح يمكن له أن يتوقف، وإنما هي البيئة التي تعمل على الحدِّ منه، عن إصابة نفسيته بكثير من الإحباط «لم يعد بتلك النفسية التي يكتب بها النصوص، وخصوصاً بعد مرحلة التسعينات المضطربة، ولم تعد هناك خشبة تستوعب طموحه الفني بعد الاستيلاء على خشبة الجفير، وتحويلها إلى مطبعة صحيفة يومية»، مشيراً إلى أن المسرحيين «عادوا كالأيتام بلا مأوى يضم فنَّهم وعروضهم؛ ما خلا صالات المدارس - المُكبَّلة بالقوانين الشديدة - والأندية التي لا تصلح صالاتها لممارسة الرياضة، فكيف بأن تكون خشبة مسرح، وكأنك يا زيد - بعد أكثر من 50 سنة من المسرح - ما غزيت»!
ضمَّ الكتاب شهادات زملاء وفنانين، كما ضمَّ محطات وصوراً لعدد من المسرحيات التي اشتغل عليها، وكذلك صوراً مع عدد من الفنانين المحليين والعرب، وأخرى في مناسبات مختلفة.
ضوء
ولد محمد عواد، في 18 يوليو العام 1938 في منطقة القضيبية بالمنامة. نشأ وترعرع في ظل رعاية والده الموظف بشركة نفط البحرين (بابكو)، وتلقى تعليمه بالمدرسة الغربية الابتدائية بالمنامة؛ حيث نمَتْ موهبته الفنية بها حتى مطلع العقد الخامس من القرن العشرين. في أكتوبر العام 1956، تم تعيينه بمدرسة القضيبية الابتدائية للبنين مدرساً للفنون التشكيلية إبَّان قيادة الراحل أحمد العمران لمديرية المعارف. في يوليو من العام 1958 تزوج، وله حالياً أربعة أولاد وابنة واحدة.
التحق بنادي الفجر الثقافي والرياضي العام 1958، والتحق بأسرة هواة الفن بين العامين 1959 - 1960.
في العام 1960 حصل على إجازة بلا مرتب من مديرية المعارف، وتوجه إلى مصر لدراسة الفن، ولكنه لم يستطع المواصلة فعاد إلى البحرين.
في العام 1961، انضم من جديد لسلك التدريس، وتنقل بين عدة مدارس، حتى استقر به المقام التربوي مشرفاً إدارياً بمدرسة مدينة عيسى الإعدادية للبنين في مطلع السبعينيات من القرن العشرين.
في العام 1968، أسس فرقة مسرحية خاصة به أسماها «فرقة المسرح الكوميدي».
في العام 1970 انضم لفرقة مسرح الاتحاد الشعبي.
من مؤسسي فرقة المسرح البحريني في 14 سبتمبر 1970، والتي تحولت لاحقاً لمسمى آخر هو مسرح أوال.
في العام 1971، قدم أول أعماله المسرحية «كرسي عتيق»، تأليفاً وإخراجاً.
التحق بوظيفة مشرف للمسرح بقسم المسرح والفنون بوزارة العمل والشئون الاجتماعية العام 1973، ثم بالوظيفة نفسها بعد نقل القسم لوزارة الإعلام العام 1976.
حصل على دبلوم في التمثيل والإخراج من أكاديمية لندن للموسيقى والفنون الدرامية (LAMDA) العام 1975.
تولى رئاسة قسم المسرح والفنون بإدارة الثقافة والفنون بوزارة الإعلام في دولة قطر من 14 أغسطس/ آب 1976 إلى 13 فبراير/ شباط 1981.
تولى إدارة الفرقة المسرحية الوطنية بوزارة الإعلام العام 1981.
عُيِّن في وظيفة مراقب لقسم الفيديو والسينما، وعضو لجنة رقابة المطبوعات بوزارة الإعلام، وبقي في هذه الوظيفة حتى تقاعده العام 1996.
بالإضافة إلى العربية، يُتقن محمد عوَّاد الإنجليزية والفرنسية.