العدد 4865 - الجمعة 01 يناير 2016م الموافق 21 ربيع الاول 1437هـ

جسور إنعاش الهوية الثقافية

الجنس البشري عموماً يعيش مرحلة ضياع إنساني، والأمة العربية تمثل أنموذجاً. هذه الأمة ماتت سريرياً - حسب زعم البعض - فأبناؤها فقدوا معنى الحياة، إنه اعتقاد يتوسع في كل الشرائح المجتمعية نظراً لتسارع قطار وضعنا العربي الخارج عن سكته القويمة، وكل لاعبٍ إقليمي ودولي يحاول القفز والسيطرة على مقبض حركته لتسييره على السكة التي توائم مصالحه. من لديه بصيص أمل يضع الحلول في خيارين أساسين، الأول مؤمن بأن الإسلام هو الحل، فبه تستعيد الأمة أمجادها، والآخر يجد في الديمقراطية والمدنية سبيل الخلاص. لا يمتلك كلا الطرفين مشاريع واقعية توضح خطة طريق الوصول لبر الأمان والانطلاق قدماً في مسيرة الحياة، فالأول يعيش الماضي الجميل والآخر تداعبه أحلام المستقبل. أما الحاضر فرهين لحظة انعتاق من عنق زجاجة تضيق كل يوم. إن انسدت، تبعها انفجار وضياع.

الخروج من حالة التية يتطلب تحديد كينونة الحاضر وشكل الهوية وارتباطاتها الثقافية للارتقاء بالمجتمع نحو مستقبل نهضوي بغض النظر عن تركيبته السياسية وشكل الحكم فيه، فتأثيرات المتغيرات الثقافية الصحيحة ستنعكس وستفرض عليه التغير بطريقة صحية، انطلاقاً من استدامة تطور المستوى الثقافي الفردي للإنسان الذي يشكل البنية الأساسية لأي نسيج اجتماعي.

إن الولوج في لب الموضوع يبدأ من باب التعريف المختصر للهوية والثقافة. إذا ما استثنينا مفهوم الهوية الشخصية المرقمة في السجلات الرسمية، فالهوية لغوياً كلمة مشتقة من «هو» المعرف بكينونة فريدة، وتلتقي تعريفات فلاسفة العرب والمسلمين كابن رشد وابن سينا والفارابي مع فلاسفة اليونان وبالأخص أرسطو الذي اعتبر الهوية وحدة الكائن المتطابقة في ذاته. الهوية الفردية للإنسان تماثل البصمة في تفردها والمفترقة عنها في تطورها المستمر منذ الولادة وحتى الممات، إن لم يقلمها صاحبها ويأسرها باكراً في صندوق أحد مكوناتها لتفسد، أو لتنشر شرورها ما أن تلامس خطر الهواء النقي. هوية الفرد السوي نسيج معقد من المكونات المترابطة يزداد تجانساً كلما تعمقت المعارف المدعمة باللغة الأم ولغة أو لغات مكتسبة واستغنت الخبرة الفردية وتكاملت القيم والسلوكيات ووضحت بواطن العقيدة التي يؤمن بها. أما جذر الثقافة في اللغة فهو «ثَقِفَ» أي صار حاذقاً ماهراً متعلماً، ومنه أيضاً ثقفه تثقيفاً أي قوم الرمح المعوج وسواه. وعرفها إدوارد تايلور بذلك الكل المتضمن المعرفة والعقيدة والأخلاق والعادات والفنون، وقدرات الفرد المكتسبة من مجتمعه. الثقافة كما الهوية يمكن أن تفسد - فأي مُعلبٍ يفسد ما أن تنتهي صلاحيته، وإن لم يتم التخلص منه فمآله سمٌ طعمه علقم لم يتجرعه - الثقافة تُقوّم المجتمع بما تحمله من استدامة تطور نسيجها المنسجم من المعارف والمعتقدات والقيم والسلوكيات واللغات والأفكار والابتكارات العلمية والاجتماعية والأدبية والفنية، وبما تحمله من الماضي المتقدم عبر الحاضر ساعياً للمستقبل. ومن هنا يظهر الارتباط الوثيق بين الهوية والثقافة لتشابه وتداخل نسيجهما حيث يقف الإنسان الواعي لذاته كمشبك يشد من ترابطهما.

غيبوبة الهوية الثقافية سببها الفقر في أحد أو كلا المكونين أو اختلال نسيجهما أو الخيط الرابط بينهما. اختلال مكونات الهوية قد يبدأ من سنوات الطفولة في المنزل والحي والمدرسة، فيشعر الإنسان بأولى الجروج من نظرات أو كلام الآخرين كونه فقيراً أو يتيماً أو غريباً أو من دين أو مذهب آخر، وتتعدد الاختلافات بين ثانوية وجوهرية لترسم ملامح شخصية الفرد وتحدد سلوكياته وأفكاره ومخاوفه، وحينما يتجاوز المرء هذه الآلام بتثقيف نفسه وتطوير قدراته ومهارته يظن معتقداً ومؤمناً بأنه قد امتلك كينونة متصالحة متجانسة، إلا أنه ينفعل بكل كيانه إن تم المساس بأحد مكونات هويته المضطربة التي لم يتنبه لأهمية معالجتها، فتظل كالجرح النازف ما أن يُمس حتى يستنفر صاحبه متوثباً لحمايته، أو يُخفي الأحقاد المتراكمة في الأعماق منتظراً ساعة الانتقام المناسبة، فما فائدة التثقيف في هذه الحالة؟! لقد تشوه واختل الرابط بين الهوية والثقافة وستُستغل كل المعارف والعلوم في دفاع - مستميت - عن أحد مكونات الهوية المجروحة. من جهة أخرى هناك من تمكن من الموازنة وامتلك الهوية الثقافية المتجانسة مع ذاته، مما يحفزه على استدامة تطوير هذا النسيج ليلتقي ويترابط ويتداخل مع الثقافات الفردية والمجتمعة الأخرى.

الهوية الثقافية كالرمح، ساقه قائمٌ قادمٌ من عمق التاريخ قاطعاً الحاضر بخطه الأفقي الصاعد من طرفيه، لتلتقي الخطوط مشكلة رأسَ رمحٍ للتصيد أو القتل! بينما الأسلم حمله بعناية لرميه مجازياً في محاولة إصابة هدف واضح يحقق التعايش البشري والرقي الإنساني والحضاري.

عامٌ جديد، مكبل بقيود من ألِف الجمود الذاتي والمجتمعي والسلطوي الديني والدنيوي، وأنس لحياة معلبة. وعامٌ سعيد متجدد باستدامة ارتقاء هوية ثقافية تشكل دعامة نسيج ثقافي إنساني فريد.

العدد 4865 - الجمعة 01 يناير 2016م الموافق 21 ربيع الاول 1437هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً