لا مبالغة في المقولة التي لا يحضرني صاحبها «نحن أمَّة تقتل عظماءها لتقدِّسهم»، والعظمة هنا تظل نسبية. تظل بحجم الأثر والحضور للشخص والمجتمع البشري الذي عاش فيه، امتداداً إلى المجموع البشري الذي يُمكن له أن يتلمَّس القيمة والكثير من المعاني، والرؤى التي قد تنتشله من بؤس وشقاء إلى نعيم، ومن تخلف وتراجع، إلى التصدُّر والسبْق والأخذ بالمبادرة.
لا نحتاج إلى مناسبة؛ كي نثير تلك المقولة والمؤدِّيات إليها. ولا أجد مناسبة أجدى وأبرز اليوم من الالتفات إلى ما خلَّفه صديقنا وأستاذنا أيضاً المغفور له الراحل خالد البسَّام، وغيره من الفاعلين في الحراك الإبداعي والثقافي هنا، من مؤلفات متنوِّعة في موضوعاتها وتناولها؛ وخصوصاً تلك التي اهتمَّت وركَّزت على جوانب من تاريخ البحرين؛ علاوة على إصدارته الأخرى. ليست وحدها «تلك الأيام... حكايات وصور من بدايات البحرين»، الذي صدر في العام 1986، التي نحنُّ إليها اليوم ونتطلَّع إلى العفوي والبسيط من الحياة، والعفوي من البشر، دون أن ننسى جانباً من ذلك الزمن من خلال «رجال في جزائر اللؤلؤ»، الذي صدر في العام 1991، و»القوافل»، التي تضعنا أمام تاريخ وحقبة زمنية بكل الإشكالات التي اكتنفتها و«رحلات الإرسالية الأميركية إلى مدن وقرى الخليج والجزيرة العربية... 1901-1926»، والذي صدر في العام 1993، و«خليج الحكايات»، في العام 1993 و»مرفأ الذكريات... رحلات إلى الكويت القديمة»، في العام 1995، و«صدمة الاحتكاك... حكايات الإرسالية الأميركية في الخليج والجزيرة العربية 1892-1925»، في العام 1998، و«بريد القلب»، في العام 2000، و «بساتين» في العام 2000، و «عزف على السطور» في العام 2000، و«حكايات من البحرين» في العام 2001، و»نسوان زمان» في العام 2002، و«يا زمان الخليج» في العام 2002، و«ثرثرة فوق دجلة... حكايات التبشير المسيحي في العراق 1900-1935» في العام 2004، و«كلنا فداك» في العام 2005، و «علي سيَّار... عمر من الكتابة»، في العام 2006، و«عبدالله الزائد... شموع تضيء»، في العام 2006، و»يوميات المنفي ... عبدالعزيز الشملان في سانت هيلانة 1956-1961» في العام 2007، وغيرها من الإصدارات، التي لا يمكن أن تكون عابرة بكل الأثر الذي تركتْه وستتركه، والمؤشر الذي قدَّمته تلك الإصدارات في لحظة من لحظات التراكم الثقافي والمعرفي للبلاد.
تعوَّدنا أن يكون التكريم من قبل بعض الجهات الأهلية فقط، فيما المبادرات التي تقوم بها الجهات الرسمية بالكاد تُذكر، أو هي ليست عصيَّة على العدِّ والإحصاء، ويحدث ذلك بنوع من المزاجية والانتقائية في كثير من الأحيان. هذا إذا حدثت أساساً.
خالد البسَّام نفسه ليس عابراً في زمن عابر. ليس عابراً، هو وغيره ممن جذَّروا حضورهم في المشهد الثقافي والإبداعي، بالجِدِّ والاشتغال على مشاريع تحتاج إلى نفَس طويل، وتحتاج كذلك إلى تفرُّغ، هو في النهاية على حساب أطراف هم على علاقة بها في حياتهم؛ أولها الأسرة، وما يلحق بها، وما تأخذه من صحتهم وأعمارهم.
بكل ذلك التنوُّع الذي يبعث على الإعجاب، وبكل تلك الطاقة الاستثنائية التي عُرف بها، وما بذله طوال سنوات، من خلال عشرات المؤلفات، يحتاج فقط إلى أن يُكرَّم بشكل يرسخ في الذاكرة، وفي صورة تليق بروحه وإنسانيته، وصوته الجامع لكل مكوِّنات الأمة التي ينتمي إليها. بالسلام الجميل الذي ظل يسكنه حتى آخر لحظات حياته. السلام الذي نفتقده اليوم وأكثر من أي وقت مضى. بذلك التواضع الذي تنبهر أمامه، مع الذين يعرفهم والذين لا يعرفهم.
التكريم الذي يؤسِّس للنسيان بالطرق التي يتم انتهاجها... بالكلمات التي ستذوي مع مرور الوقت لن يكون له أثر فاعل، ولا يُقدِّم اعترافاً حقيقيّاً بما بذله البسَّام طوال سنوات، ما لم تتم إعادة النظر في التعاطي مع المثقف عموماً، وهو حيٌّ يُرزق، وهو يعاني ويكابد ويشقى، وقد يحرم من حقه في أن يتولَّى وطنه تعهُّد جانب من جهده، وبذل ما ييسِّر من سهره واشتغاله، وينسيه ذلك الانقطاع الذي له كُلفُه الباهظة، على المستوى النفسي والصحي، ولن نتكلم عن الجانب المادي، فهو مؤبَّد بتأبُّد التهميش نفسه. أو لنَقُل عدم الاكتراث بتلك الأسماء، وكأنها ليست هنا.
عشرات القاعات، والأجنحة في المكتبات الكبرى، وحتى الميادين، والمسارح وصالات الجمعيات التي تُعنى بالثقافة والفكر، يُمكن لها أن تحمل اسمه وإنجازه الثقافي المتنوع والمتعدِّد.
والأهم من كل ذلك، أن يتم الالتفات إلى ما أنجز ولم يتسنَّ له أن يدفع به إلى المطابع. المطابع التي كان يتولَّى كلفة ما ينجزه من إصدارات؛ إلا ما ندر، بفعل تكليف يوكل إليه، ومشروع روَّاد الصحافة أحد الشواهد في هذا المضمار، أو العمل على تنظيم منتدى تُقدّم فيه أوراق عمل تبحث وتقرأ مسيرته الثرية والمتنوعة. ولن نكون متفائلين جدّاً بالمطالبة باعتماد أحد كتبه كي يكون ضمن مقررات المناهج في وزارة التربية والتعليم، وذلك هو ما يدفعنا إلى تنويع أوجه وصور التكريم، الذي لا سقف مرتفعاً فيه، فقد يتم يوماً الالتفات إلى ما يمكن تحقيقه، هذا إذا تم الالتفات إلى أي منها أساساً!
الأمة التي تتعامل مع مبدعيها ومثقفيها باعتبارهم كائنات عابرة، في زمن عابر، لن تجني من وراء ذلك سوى الخسارة. بذلك الشعور الذي بات مستقرّاً في نفوس وقناعات كثير من الأحياء ممن لا أثر يدل عليهم في نظر بعض البلدان.
إقرأ أيضا لـ "جعفر الجمري"العدد 4863 - الأربعاء 30 ديسمبر 2015م الموافق 19 ربيع الاول 1437هـ
كل سنة وانت طيب أستاذ , الدوام لله .