الصدفة وحدها عرّفتني قبل عدة أشهر على مجموعة من القارئات النهمات. ووجدت في الانضمام إليهن وسيلة لاستعادة لياقة القراءة التي فقدتها خلال السنوات الأخيرة لصالح ملاحقة تطورات الأحداث المتسارعة والمتشابكة على مختلف الأصعدة، في محاولة لفهمها والتفاعل معها، ربما.
لم أكن وحدي التي أفقدني هذا اللهاث وراء المجريات المستهلِكة للطاقة في محاولة الفهم تلك، شهيتي للقراءة وقدرتي على التركيز والغوص في الكتاب أمامي، فكثيرات من عضوات المجموعة كن يعانين من الأمر نفسه لأسباب مختلفة، منها أيضا انشغالات الحياة والافتقار إلى تنظيم الوقت والأولويات، وبقدر الرغبة في الخروج من حالة العزوف المحبطة عن القراءة، والرغبة في استعادة اللياقة، تطورت المجموعة سريعاً إلى نادٍ بهدف واحد وحيد هو القراءة، وأصبحت للنادي رؤيته وجدول قراءاته وأنظمته وصداقاته مع المجموعات المشابهة وتطلعاته إلى النمو والمساهمة في استعادة الوعي المجتمعي لأهمية القراءة ولخلق جو ثقافي صحي.
هذه المجموعة هي واحدة من مجموعات تتشكل في الآونة الأخيرة بكثافة لتنضم إلى مجموعات سابقة تشكلت في فترات مختلفة منذ نهايات العقد الماضي، بعضها خاص ومغلق على أعضائه، وبعضها منفتح على إقامة صداقات وتعاون، أجمل ما فيها هو الإخلاص للقراءة، والفضل في تكوينها يعود إلى جيل واع من الشباب عرفوا الطريق لبناء أنفسهم بعيداً عن التلوث الفكري والضوضاء المزعجة المصاحبة له والتي تحيط بهم من كل جانب، فأسسوا مجموعاتهم الصغيرة للقراءة وتبادل المعرفة والآراء، بالنقاش والتحليل والنقد متحدِّين الأرقام المخجلة التي تتداولها منظمات الثقافة والأدب والعلوم وتدلل بها في كل بحث ومحفل على تخلّف العالم العربي عن قطار المعرفة السريع الذي وقوده القراءة والسعي الحثيث إلى الاطلاع على كل جديد وهضمه جيداً وتبني المناسب منه. فمن يقرأ، يمكنه الاستغناء عن حضوره الفيزيائي ويعيش حيوات متعددة ومتنوعة ويسافر في سويعات قليلة، عبر أمكنة كثيرة وأزمنة ممتدة، ويلتقي شعوباً، ويحب ويكره، ويمر بحالات شعورية مختلفة، ويفتح آفاقاً غير منتهية في كل اتجاهات المعارف.
دول الخليج أيضًا شهدت نشوء مجموعات مشابهة ففي الكويت، يضم مشروع «الجليس»، الذي يديره مجموعة من الشباب الكويتي، نحو 75 نادياً، وينتسب إلى هذه الأندية نحو ألف من الأعضاء ممن وصفوا أنفسهم بأنهم أشخاص «وايد نحب القراءة» وهو شعار موسمهم الثاني وأطلقوه باللهجة المحلية. وكشأن المجموعات البحرينية السابق ذكرها، يهدف مشروع «الجليس» إلى تشجيع الشباب على القراءة والكتابة من خلال أدوات فاعلة. ومثله أنشأت أيضًا مجموعات وأندية للقراءة في عمان والسعودية.
الجانب المشرق في الأمر، أن هذا الحراك «القرائي» الشبابي مرشّح للاستدامة محلياً واقليمياً بدعم من جيل قادم من المخطط أن يتواصل معه في المستقبل القريب، قوامه مليون طالب مدرسي يستعدّون الآن للمشاركة في مشروع «تحدي القراءة» العربي الذي أطلقته مؤسسة محمد بن راشد لتشجيع طلبة المدارس العرب على قراءة 50 كتاباً سنويّاً. وعيّنت المؤسسة مندوبين للقيام بجولات على وزارات التربية العربية للتوعية بكيفية الاستفادة من المشروع وتشجيع الطلبة من بداية المرحلة الابتدائية، حتى نهاية المرحلة الثانوية للتنافس بقراءة كل طالب 50 كتاباً سنويّاً على مراحل متتالية. وهذه المشروع ليس فقط تدريباً على القراءة وانما تلخيص الكتب أيضا وتقديمها أمام محكمين وممتحنين لاختيار الفائزين من بين المشاركين.
على مؤسسات الثقافة والتعليم أن تفرح بإزاحة بعض العبء عن عاتقها بأن بادر الشباب إلى الاهتمام بأنفسهم ونشر الوعي فيما بينهم وأثبتوا قدرتهم على إدارة مجموعاتهم وبناء أنظمتهم الداخلية لتعمل على بناء قدرات بعضهم بعضاً بحماس نابع من رغبة حقيقية في تجاوز دوامة الأحداث التي مرت وتمر بها البلد والمنطقة من جهة، والمغريات الاستهلاكية الكثيرة التي تتناوب على جذب الاهتمامات الشبابية من جهة أخرى.
لكن دور المؤسسات الرسمية لم ينته بتشكّل هذا الجيل الذي طوّر نفسه بنضج واستقلالية ومسئولية عالية تثير الإعجاب والتقدير، بل إنه قد بدأ، ومسئوليتها أصبحت أكثر وضوحاً بعد أن بادر الشباب بالخطوات الأولى. الآن جاء دور هذه المؤسسات في توفير البيئة المناسبة لتواصل هذه الحركة ازدهارها ونموها، وذلك بإتاحة القاعات الثقافية لهذه المجموعات لعقد لقاءاتها ومنتدياتها، واستضافة كبار الكتّاب في مختلف المجالات الأدبية والعلمية وغيرها لإتاحة المجال للاقتراب منهم والاستقاء من تجاربهم، بالإضافة إلى إقامة الدورات التدريبية وورش العمل في مجالات القراءة الفعالة والكتابة الإبداعية وغيرها من المهارات التي تشجع على القراءة والكتابة وتجعلها أكثر فعالية ومتعة.
العيون تتعلق بأصدقاء القراءة لخلق نهضة القراءة بوعي مجتمعي لأهمية تنشيط الجو الفكري والثقافي وتفعيل الطاقات المتحمسة إلى اقصاها لإطفاء العطش واليباس الذي أصاب الساحة الثقافية. يوسف الزيرة، أحد القائمين على الحملة الأخيرة التي تدعو لإنجاز قراءة 1000 كتاب في 2016، اختصر طموح هذا الحراك الذي ظهر بوضوح مؤخرا، في «خلق ثقافة القراءة، وخلق مجتمع يقرأ كما يأكل».
إقرأ أيضا لـ "هناء بوحجي "العدد 4862 - الثلثاء 29 ديسمبر 2015م الموافق 18 ربيع الاول 1437هـ
لابد أن نحيي ما مات فينا ..
لا بد أن نبدأ ونحاول فلا للأعذار فالقراءة حياة ، والعزوف عنها موت وفناء .منال أم أحمد
لابد أن نحيي ما مات فينا ..
لا للأعذار كما قالها طفلي ذوو العشرة أعوام فيجب أن نبدأ ونحاول أن نعيش كما اراد لنا الله تعالى ورسوله ص أن نعيش وذلك بأن نقرأ ونعلم ومن ثم نستطيع عبادة الله حق ع عبادته. مواصلتنا للقراءة هي مواصلتنا للحياة والعيش ...
شكرا لك أستاذة هناء، لعلهم يقرؤون!
هنيئا لك كونك قارئةً تنتمين إلى قارئين فأنت بذلك من القليلين القارئين الماتعين بثمرات الفكر الإنساني الجَنِية الشهية المكونة لجوهر الإنسان والإنسانية.
صدق من قال: "الأمة التي لا تقرأ تعيش خارج زمانها.