مع أنَّ الموت حق، إلا أن رحيل الصديق والزميل خالد البسٌام المباغت، والذي تمرُّ هذه الأيام الذكرى الأربعينية لوفاته، شكّل لي صدمةً قويةً، فليس من السهل على المرء أن يفقد صديقاً مثقفاً هو من ندرة الكتاب والمؤلفين المتميزين في كتاباتهم ، فما بالك وأنت على موعد للقائه في يوم سماعك بنعي رحيله الفاجع، وهو اليوم الذي ألقيتُ فيه محاضرة عن «تاريخ الترجمة لدى العرب بين الماضي والحاضر» بمركز كانو الثقافي»، بتاريخ (11 نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي). وكنت دعوته شخصيّاً لحضورها لعله يدلي بمداخلة تثري الحوار بشأن موضوع المحاضرة بصفته أحد المترجمين المتميزين، ولعلمي المسبق بندرة حضوره الفعاليات الثقافية والسياسية كررت ملحّاً عدم نسيان حضور المحاضرة ووعدني خيراً، وكان هذا آخر اتصال فيما بيننا لأتلقى النبأ الصادم صباح ذلك اليوم المشئوم.
تمتد علاقتي بالفقيد البسٌام إلى ما يقرب من أربعة عقود ونيف. وتحديداً منذ زمالتنا المشتركة في عضوية «الاتحاد الوطني لطلبة البحرين/ فرع القاهرة» في ذلك الزمان من المد اليساري العربي العارم بأحلامه الثورية الرومانسية، كان هذا «الفرع» من أكثر فروع الاتحاد صخباً بالنقاشات والمعارك السياسية حامية الوطيس بين أعضائه تبعاً لانتماءاتهم إلى التيارات السياسية المختلفة لقوى المعارضة البحرينية. ومع ان البسام كان ينتمي إلى واحد من تلك التيارات، وعلى رغم ذلك الحماس الثوري والتعصب الشديد اللذين يتميز بهما الطلبة في مثل هذه السن من المراهقة المبكرة، فإن ثمة قلة منهم (من جميع تلك التيارات) عُرفوا بهدوئهم وقلة ضجيجهم السياسي، حتى في ظل تعصبهم للتيار الفكري الذي استهواهم، وكان الفقيد الراحل واحداً من تلك القلة، وظل كذلك طوال حياته معروفاً بهذه الخصلة، إلى جانب خصال إنسانية حميدة اخرى عُرف بها.
وإذا كان البسّام من الطلبة القلة الذين تميزوا بخصلة الهدوء والرزانة طوال حياته الطلابية الجامعية، فان هذه الخصلة تجلت قيمتها على نحو أعظم بعد عودته الى الوطن، فمن البداية اختط الفقيد لنفسه طريقه المستقل الذي ارتآه أكثر نفعاً لخدمة شعبه ووطنه من أي نشاط آخر، فكان تركيزه على ما حباه الله به من موهبة الكتابة الصحافية والتأليف، وحسناً فعل ذلك، فما أسوأ أن يشتت المثقف الكاتب جهوده في أنشطة واهتمامات متعددة تأتي على حساب النبوغ الذي يتميز به الأكثر عطاءً لوطنه وشعبه، وهكذا احترف الفقيد الراحل ومنذ التحاقه بالعمل الصحافي في أواخر سبعينات القرن الماضي مهنة الكتابة الصحافية بمختلف ألوانها، لكنه لم يتنكر لا لماضيه الوطني ولا لتياره السياسي الذي تبناه، وتميّز بوجه خاص بالنقد الاجتماعي والسياسي الساخر في عموده الصحافي اليومي الذي ظل مواظباً عليه تقريباً طوال ما يقرب من 20 عاماً أو أزيٰد، لكنه لم يسخّره قط للترويج لسياسات الحزب الذي كان ينتمي إليه أو يناصره، محترماً بذلك استقلالية الصحف التي كتب فيها، على عكس مثقفي الأحزاب اليسارية والاسلامية الذين أفرطوا في «اُمميتهم» اليسارية أو الاسلامية، كما أفرطوا في تقديس «نموذج الدولة» الذي ارتأوا أنه يمثل تلك الأممية إن بشكلها اليساري وإن بشكلها الاسلامي الثوري.
فإن النجدي البحريني خالد البسّام، كما عرفته، كان عروبيّاً ليس عرقاً ودماً فحسب، بل شديد الاعتزاز بعروبته وبتراث وحضارة اُمته حتى النخاع ومن دون أن يخالط هذا الاعتزاز شيء من آفة الشوفينية العنصرية. كما استهوته الكتابة التاريخية وهي تُعد أهم تركة خلّفها من منجزاته الثقافية والفكرية على الاطلاق، بدءاً من كتابه الأول «تلك الأيام» 1986، وربما ليس انتهاءً بكتابه «النجدي الطيٌب» 2008، وقد تميّزت مؤلفاته بدقة اختياره لمواضيعها وسبك نصوصها بأسلوبه الذهبي الرشيق السريع الهضم والخفيف على معدة القارئ العقلية، كما كان يحرص على جاذبية عناوينها، وكان (رحمه الله) يحرص على اهدائي نسخة منها، وخاصة تلك التي صدرت بدءاً من التسعينات بعدما امتهنت العمل الصحافي حتى نهاية العقد الأول من الألفية الحالية، وقد قدمت عروضاً صحافية تلخيصية وافية عن معظمها، وكانت لنا جولات من المناقشات حولها. أما في سني حياته الأخيرة فقد انقطع لكتابة الرواية وكان له منها ثلاث: «بريد القلب»، «لا يوجد مصور في عنيزة»، «مدرس في ظفار».
وغني عن القول أن الراحل كتب في عدة صحف ومجلات بحرينية وخليجية، وشغل مناصب في بعضها أثبت جدارته بتوليها، لكنه عانى، كغيره من الكتّاب الصحافيين المتميزين، من التهميش، بل حتى الاقصاء عن الكتابة في بعض الفترات عن الكتابة، كما عانى من حجب مقالات له أحياناً اخرى، ومن التقتير والمساومات المذلة في أحايين عديدة على حجم المكافأة المعطاة له عن موضوعات تاريخية متميزة كان ينشرها في سلسلة من الحلقات المطوّلة في عدد من الصحف الخليجية ثم يصدرها في كتب، لكنه وعلى رغم انتمائه إلى عائلة ميسورة فقد عاش عصاميّاً معتمداً على عوائد عمله الكتابي المضني. وعلى رغم ما ناله الفقيد الراحل من تكريم في مناسبات بحرينية وخليجية عديدة، فإني أرى أنه لم يحظَ بعد بالتكريم اللائق بقامته، لا خلال حياته ولا بعد مماته حتى الآن، فخسارتنا برحيل مثقف بحريني بحجم الراحل لا تعوّض بحرينيّاً وخليجيّاً وعربيّاً، وخاصة أن رحيله جاء في عز عطائه. وفي تقديري إن خير تكريم يليق بمقامه ان يتنادى أهله وكل محبيه، من أصدقاء وصحف ومؤسسات مدنية وسياسية، لجمع كل ما خلٌفه من مواد تاريخية وثقافية مختلفة لم يسعفه العمر لنشرها في كتب، وكذلك جمع كُل ما كُتب عنه سواء خلال حياته أم بعد مماته. رحم الله الفقيد العزيز خالد البسام وأسكنه فسيح جناته.
العدد 4861 - الإثنين 28 ديسمبر 2015م الموافق 17 ربيع الاول 1437هـ
الله يرحمه
رحمة الله عليه.
ابتسامات البسام الادبية
ونحن نؤكد على كلامك يجب طبع ابتسامات البسام الادبية حتى تعيشها الاجيال التي لم تعايش زمن الابتسامات الادبية باسلوبها الانسيابي السهل على النفس وانا قرأت بعض كتاباته وفعلا خفيفة ولكنها عميقة وذات معاني بعيدة هادفة ، وشكرا لكم .