العدد 4859 - السبت 26 ديسمبر 2015م الموافق 15 ربيع الاول 1437هـ

الشاعر ناقداً بأدوات الشعر... والذاكرة: صيغة من صيغ تحصين الذات

«حيرة العائد»... التجربة النثرية الثانية لمحمود درويش...

نشر ملحق «فضاءات» الثقافي الذي تصدره صحيفة «الوسط»، أمس السبت (26 ديسمبر/ كانون الأول 2015)، استعراضاً للتجربة النثرية للشاعر الفلسطيني محمود درويش، تلك التي لم تنل حظها من الإضاءة والقراءة والتناول، كما هو الحال مع تجربته النثرية التي استحوذت على جل المشروعات النقدية العربية التي يُعتدُّ بها؛ أو تلك التي وجدت في تناوله فرصة لنيْل حصتها من الحضور.

التجربة تلك، وبحسب ترتيبها الزمني: «يوميات الحزن العادي»، وصدرت طبعته الأولى في العام 1973، «ذاكرة للنسيان» وصدرت في العام 1987، و «حَيْرة العائد» في العام 2007، حيث بدأ ملحق «فضاءات» نشر الإضاءة حول التجربة الأولى، وكانت مبكِّرة وقتها (1973)، بالنَّفَس واللغة والتوجُّه عموماً.

تتناول «الوسط» في عددها الرئيسي، ثالث مشروعات درويش النثرية «حيرة العائد»، للوقوف على القفزات التي تحققت بين العام 1973 والعام 2007، أي 35 عاماً، وبين التجربة الأولى والأخيرة، ضمن ما تعتمده على الذاكرة، وتجاوز توصيف المكان والزمان الذي حدثت فيه تحولات ذلك المكان بفعل تسارع أحداث سياسية عملت على تشطير الاستقرار في المنطقة عموماً، وهو بالمناسبة استقرار قبل تلك التحولات، لا يعدو كونه استراحة ما قبل الكارثة أو المأساة، ولم تكن استراحة بالمعنى المباشر.

السمة البارزة والتي يمكن الوقوف عندها مليَّاً، هي التجليات النقدية التي يعمد محمود درويش إلى تمريرها في ثنايا الكتاب موضوع المراجعة، بلغة شعرية شاخصة وعذبة، من دون أن تنفلت من توصيل تلك التجليات عبر عدد من الرؤى. كأنه الشاعر هنا يمارس النقد اتكاء على أدوات الشعر.

للنسيان ذاكرته أيضاً

يمكن الوقوف على ذلك في «هل مازال الشعر ضرورياً» وهو عنوان الكلمة التي ألقاها في اختتام الندوة النقدية التكريمية في مدينة قفْصة التونسية في العام 1995، وكذلك كلمته التي جاءت بعنوان «الشعر بين المركز والهامش»، في احتفال منْحه شهادة الدكتوراه الفخرية من جامعة لوفان البلجيكية في العام 1998، إضافة إلى كلمته «مهنة الشاعر»، والتي ألقاها في حفل التوقيع على كتاب «كزهر اللوز أو أبعد»، في رام الله، ومن بين كل تلك الكتابات، مقدمته للمختارات الشعرية الصادرة عن دار غاليمار الفرنسية، تحت عنوان «تضيق بنا الأرض... وقصائد أخرى»، وحملت المقدمة عنوان «الولادة على دفعات»، وسنأتي بشواهد في هذا الصدد.

مع التأكيد بأن درويش وهو يلجأ إلى الذاكرة، إنما يفعل ذلك بسبب نظره إليها باعتبارها صيغة من صيغ تحصين الذات والوجود الراهن، والتحقق من صيغة ذلك الوجود، بالذهاب إلى المستقبل الذي لا يُصادر حقك في الحياة والمعرفة.

لم يتم الالتزام بالترتيب الزمني، بتأخير «ذاكرة للنسيان»، والذي صدر في العام 1987، ويمتح من ذاكرة بيروت بعد الاجتياح الإسرائيلي لها في العام 1982، إلا أنه لم يكن على مبعدة من المكان الأول الذي ينتمي إليه درويش. لم يتم بذلك الالتزام لارتباط المشروع الثاني ببداية التطور الفارق في تجربة درويش الشعرية؛ وخصوصاً في مطوَّلته «مديح الظل العالي»، التي تعتبر الانطلاقة الحقيقية لرجرجة التجربة الشعرية العربية الحديثة في مشروع درويش الانتقالي من الشعر في درجات متفاوتة، مُوجّهاً أو انعكاساً لحال المقاومة والوهج الذي كانت تتمتع به القضية الفلسطينية باعتبارها بؤرة الصراع الأشد ضراوة في المنطقة والعالم؛ لتأتي مرحلة الاجتياح لبيروت لتسجل انتقالاً هذه المرة من مرحلة الخصوصية في الصراع إلى الانفتاح والشمولية في تناول قضايا كونية يأخذ فيها العرب وضعية الضمير الغائب، من دون الانفصال الكلي عن قضايا العرب الكبرى، فكان للتجربة النثرية أهميتها في الرصد والتسجيل ولكن ضمن فضاء اللغة الشعرية في أقصى درجاتها.

شهادات

«حيرة العائد» هذه المرة جاء في شكل مجموعة من المقالات المختارة، من بينها كلمة بمناسبة العودة إلى مكان الدرس الأول: «مدرسة كفْرا ياسيف»، بمنطقة الجليل، وفيها درَس الشاعر، وحملت المقالة عنوان «البيت والطريق»، وشهادة نشرت في مجلة Geo الفرنسية في عددها المُكرَّس لـ «فلسطين: رحلة في قلب شعب»، وحملت عنوان «المنفى المُتدرِّج»، وكلمة بعنوان «في تحرير الجنوب»، ألقيت في احتفال جامعة بيرزيت، بمناسبة تحرير جنوب لبنان من الاحتلال الإسرائيلي العام 2000، و «رسالة الغائب إلى الغائب»، في ذكرى الشاعر الفلسطيني توفيق زياد، و «الساخر من كل شيء»، كلمة أُلقيت في حفل تأبين الأديب والصحافي والسياسي الفلسطيني، إميل حبيبي في مدينة الناصرة في مايو/ أيار 1996، و «طريق العودة هي طريق المعرفة»، كلمة أُلقيت في حفل تأبين الأكاديمي الفلسطيني - الأميركي، وأستاذ العلوم السياسية، والرئيس السابق لدائرة العلوم السياسية في جامعة نورثويسترن، إبراهيم أبولغد، في مدينة رام الله، و «كما لو نُوديَ بشاعر أن انهض»، في ذكرى رحيل الشاعر والكاتب السوري ممدوح عدوان، و «ياسر عرفات... فاجأنا بأنه لم يفاجئْنا»، في ذكرى يوم رحيل الرئيس والزعيم الفلسطيني، وكلمة أخرى بعنوان «تأخَّر حزني عليه»، في أربعينية عرفات، و «الراقص في حفل الألغام»، في أربعينية الصحافي والكاتب اللبناني سمير قصير، و «شاعر نادر»، في ذكرى الشاعر والكاتب المسرحي السوري محمد الماغوط، و «يدٌ ترى وقلب يرسم»، في ذكرى رحيل الفنان التشكيلي الفلسطيني، وأحد أبرز رواد الفن التشكيلي، إسماعيل شموط، و «مطر السيَّاب»، وهي شهادة قدَّمها درويش في ندوة بمناسبة الذكرى الثلاثين لرحيل السيَّاب، أقامها معهد العالم العربي في العاصمة الفرنسية (باريس)، و «هل مازال الشعر ضرورياً» عنوان الكلمة التي ألقاها في اختتام الندوة النقدية التكريمية في مدينة قفْصة التونسية في العام 1995)، و «الشعر بين المركز والهامش»، الكلمة التي ألقاها في احتفال منْحه شهادة الدكتوراه الفخرية من جامعة لوفان البلجيكية في العام 1998)، و «آخر مرة/ أول مرة»، الكلمة التي ألقاها في حفل التوقيع على «جدارية»، الذي أقيم في رام الله، و «مهنة الشاعر»، عنوان الكلمة التي ألقاها في حفل التوقيع على كتاب «كزهر اللوز أو أبعد»، في رام الله، ومقدمته للمختارات الشعرية الصادرة عن دار غاليمار الفرنسية، تحت عنوان «تضيق بنا الأرض... وقصائد أخرى»، وحملت المقدمة عنوان «الولادة على دفعات»، إضافة إلى مقالات أخرى لم تحمل إشارات إلى مناسبات.

الحضور... جسر الشعر

في مُجمل ما تضمَّنه كتاب «حيرة العائد»، لم ينشدَّ إلى مناسبة هنا، وتأبين هناك، وتكريم هنالك فيما يكتب. كان منشدَّاً إلى مشروع يكتب كل تلك الحالات، تكون فيها المناسبة جسراً يعبره لإضاءة اللغة النثرية المتاخمة للشعر، لا أن تكون اللغة في خدمة المناسبة، بمعنى استسلامها للمباشرة من جهة، والارتكاز إلى الذاكرة على مستوى الشخوص والمكان والزمان، ضمن سطحها، والعادي مما يمكن أن يكون كلاماً عابراً، تتكرر صوره آلاف المرات في أمكنة عربية عديدة، مشغولة أساساً بالنعي في درجاته الرديئة والركيكة.

ذلك أمر، أمر آخر يتعلَّق بهذه التجربة خصوصاً، والتي لا يمكن أن نفصلها عن التجربة الأولى «يوميات الحزن العادي»، بارتكازها على الذاكرة في كثير من مفاصلها؛ إذ هي هنا ليست بمنأى عن الذاكرة تلك، لكنها لا تنشغل بسرد التفاصيل والوقوف عندها، بقدر ما تنشغل بالحالة الإنسانية عموماً، استجلاء لقيمتها، وابتكاراً للمرادفات والمعاني، من حيث دقة توظيفها، ولا تتجلَّى تلك الدقة إلا بدخولها في السياق الشعري.

يجد درويش في التجربة النثرية فضاءه الأوسع والأشمل، بحكم تعدُّد الموضوعات والتوظيفات التي يخرج بها على قرَّائه. وهو بذلك لم يخرج على المرجعية العربية الأولى، والتي كانت أقدر بالنثر على احتواء تفاصيل الحياة العربية بعد انتقال معارفها من مرحلة الشفهية إلى التدوين، بدءاً ببروز المناهج المُؤسِّسة للتاريخ من جهة، ووصولاً إلى فنون اللغة والأدب، وليس انتهاء بالمحاولات الأولى لتأسيس نظر نقدي، تم البناء عليه لاحقاً.

أمر جدير بالتوقف عنده، هو قدرة درويش على تمرير إلماعاته النقدية التي يمكن الوقوف عليها في: «هل مازال الشعر ضرورياً» وهو عنوان الكلمة التي ألقاها في اختتام الندوة النقدية التكريمية في مدينة قفْصة التونسية في العام 1995، وكذلك كلمته التي جاءت بعنوان «الشعر بين المركز والهامش»، في احتفال منْحه شهادة الدكتوراه الفخرية من جامعة لوفان البلجيكية في العام 1998، إضافة إلى كلمته «مهنة الشاعر»، والتي ألقاها في حفل التوقيع على كتاب «كزهر اللوز أو أبعد»، في رام الله، والأجلى من بين كل تلك الكتابات، مقدمته للمختارات الشعرية الصادرة عن دار غاليمار الفرنسية، تحت عنوان «تضيق بنا الأرض... وقصائد أخرى»، وحملت المقدمة عنوان «الولادة على دفعات»، تلك الإلماعات النقدية التي لا ترتهن إلى القائم والمُتداول من نظريات ومناهج نقدية، يبدو معظمها في وادٍ، وما تحويه النصوص من مضامين، وحتى على مستوى بنائها، في وادٍ آخر.

تجليات النقد

ذلك التمرير، لا ينفصل بأي حال من الأحوال عن نظره وقراءته وكشفه؛ بل وتعريته لكثير من مفاصل الواقع العربي من الماء إلى الماء.

في «هل مازال الشعر ضرورياً»، نقف على بعض تلك التمريرات النقدية بامتياز، وإن صاغتها لغة الشاعر، بعيداً عن لغة الناقد ومنهجه «هل هو المعنى الذي أدركه في تكريم المشروع الشعري العربي، الذي أحاول أن أُسهم فيه بجدلية حياة وموت، رحيل وبقاء، حضور وغياب، لنتمكَّن معاً، من مراكز الثقافة العربية وأطرافها، من أن نحقِّق حضورنا الشعري المشترك في الذات وفي الآخر؛ في الذات التي انفصلتْ عن نفسها لترى إلى نفسها وهي تحاول أن نعيش الوجود شعرياً مهْما كان الثمن، ومهما كان حجم القطيعة التي تقترح علينا الغياب عن الذات، وعن الآخر معاً».

وفي موضوع الشعر له رؤية تنفذ إلى القارئ وهي مصُونة بالشعر أيضاً، انفلاتاً من ضجر وسأم وانغلاق مناهج نقدية تقرر الصالح من الطالح، في ما يشبه المتاهات التي يجد القارئ نفسه أمامها. نقف على ذلك وهو يتناول «هوية الشعر القومية» في «الشعر بين المركز والهامش»: «لم يعد في وسْعنا في نهايات هذا القرن الشعري (1998)، أن نطبِّق فوارق المستوى الثقافي والاجتماعي والعلمي بين العالم العربي والغرب، تطبيقاً أوتوماتيكياً على العلاقة بين مستوى تطوُّر الشعر العربي الحديث وحركة الشعر العالمية الحديثة. ومن هنا، فإن الإصغاء إلى الشاعر العربي قد ينتهي إما بصدْمة، وإما بخيبة أمل. ربما لأن هوية الشعر القومية لم تعد تعبِّر عن نفسها إلا بشكل خفيٍّ، أو مشهدي، أو عن حركة مختلفة في الزمن... أي في منزلة ملحقة بهوية الإنسان الإنسانية التي يقولها الشعر المولود من ماضي غربتنا الواحد على الأرض».

التعويض المجازي

وعن التحرر من الشرط التاريخي بالنسبة إلى الشاعر، يكتب درويش في «مهنة الشاعر»: «لا يستطيع الشاعر أن يتحرر من شرْطه التاريخي. لكن الشعر يوفر لنا هامش حرية وتعويضاً مجازياً عن عجزنا عن تغيير الواقع، ويشدُّنا إلى لغة أعلى من الشروط التي تقيِّدنا وتعرقل الانسجام مع وجودنا الإنساني، وقد يساعدنا على فهم الذات بتحريرها مما يُعيق تحليقها الحر في فضاء بلا ضفاف».

وعلى مستوى تجلِّي الذاكرة وحضوره، باعتبارها الرافد الذي يشكِّل منها درويش وعياً جديداً في النظر وكذلك استقبال النص، والعلاقة التي لم تعد جدلية بين الكاتب الأول، والكاتب الثاني (القارئ)، بحكم الفضاء المتعدِّد الذي أتاح خيارات في مفهوم القراءة، بتعدد أشكالها وأنماطها وصورها، التي تبدَّت اليوم - في أبسط ما يمكن معاينته - في المنصَّات الرقمية التي كان لها دورها في إعادة تشكيل الوعي، وإعادة النظر إلى الذاكرة نفسها.

مع أهمية الالتفات هنا إلى أن درويش وهو يتكئ على الذاكرة، ليس باعتبارها مخزوناً يغرف منه، بل باعتبار أهمية الانتقال بها من مرحلة المادة الخام، وهي مركونة، أو يتم تقديمها بهشاشة بالغة، إلى صيغة أخرى من صيغ تحصين الذات والوجود الراهن، تجاوزاً إلى الوجود المستقبلي.

وعند حدود الاتكاء على الذاكرة، على مستويي المشروع الشعري والنثري، يتضح في الثاني ويبرز بالكثافة التي تحضر فيها اللغة، وذلك السيلان من تفاصيل المكان والوقت والناس والعدو، والذين يتفرجون على المأساة التي تحولت على ملهاة.

في «رسالة الغائب إلى الغائب»، نقرأ الآتي: «وهذه هي أرضك، أرض الذات، والموضوع أرضك، وينبوع الهوية الإنسانية، الزمنية والروحية، المتعدِّدة في الماضي الثابت وفي الحاضر المتأزِّم، وفي الغد المفتوح، أرض البداية السحرية المُشرعة على بدايات لا نهاية لها. من هجرة وبقاء، من اجتثاث وانبعاث، من سبْي وعتْق، من غرب وشرق، وهي ما هي عليه، أرض أرضها وسمائها، وأرض شعبها الصابر القادر على أن يكون ما هو عليه، من صلابة الجليل ومراوغة الأقحوان على طريق الربيع (...)».

وفي الإصدار نفسه، يمكن بتتبُّع تجربة درويش النثرية، الوقوف على السخرية المُرَّة والجارحة والحادَّة، من دون أن تكون لِصْق مباشرتها، أو تورُّطها في إقحام لا تبرير له؛ بل ضمن سياقات ذلك النظر في عمقه، والقراءة في استجلائها، والكشف الذي يشير بأكثر من إصبع اتهام لتراكم العار، وإدمان الهزيمة.

غلاف الكتاب
غلاف الكتاب




التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً