كانت الرحلة من اسطنبول إلى قونيا في الجنوب التركي تمثل سلسة رائعة لم يعكر صفوها بعد مطار صبحة الدولي أو موعد الرحلة الخامسة صباحا، سهل علينا الأمر ترك الحقائب الكبيرة في عهدة الفندق حتى يوم العودة 19 أغسطس 2014.وهكذا بلغنا المطار وفي أقل من ساعة ونصف كانت عجلات الطائرة تلامس أرض مطار قونيا.
كانت المحطة الثانية أكثر روعة في فندق السبع نجوم. تبدد قلق الانتظار 5 ساعات (ليس قبل الساعة الثانية ظهرا) حتى يحق لنا استخدام الغرفة. أيضا جرت الأمور على أفضل وجه فقد استقبلنا بحفاوة بالغة وفي أقل من ربع ساعة كنا على مائدة الإفطار السخية في الفندق نأكل العسل الطازج مع الكروسون الساخن وأنواع البيض والكوفي والشاي، كان إفطارا رائعا ً يرقى إلى مستوى الرحلة المرتقبة في الساعات القادمة.
كان مقام (مولانا) جلال الدين الرومي كما يسميه أهل المدينة وأستاذه العظيم شمس الدين التبريزي من أهم المعالم التي أتحفنا بها موظف الاستعلامات عند محطة الباص ومع النسمات الباردة كان حسن الطالع رفيق دربنا من جديد فكان الجواب من لسان عربي بلزاد على كرمه عندما دفع لنا من بطاقته الخاصة أجرة الباص.عند نهاية خط الباص أوصلنا محمد وهو لا جيء سوري إلى المترو ثم عهد بنا إلى شخص آخر يوصلنا إلى محطتنا الأخيرة.
لم تكن من طريقة للتواصل مع مراد أفندي سوى ربت اليد على الصدر علامة على الترحيب والحفاوة بزوار مقام مولانا، كان مراد بسبحته الجميلة وسماحته الجلية لا يختلف عن أي بحريني تقابله في المسجد.وللمرة الثالثة وقبل أن يودعنا عهد بنا مراد أفندي إلى شخص آخر فهمت من تمتمتهأنه يقصد مولانا، فأومأ الأخير برأسه علامة الترحيب والامتنان.بعد 20 دقيقة ترجلنا قرابة العشرين مترا وعند بداية شارع طويل جدا أشار إلينا بيده مقام مولانا في آخر الشارع.
يبدو أنه عرف لدى أهل قونيا أن يوصلوا الزائر إلى بداية الشارع وعليه أن يترجل حتى يصل المقام شجعنا على الاستمرار عشرات الناس التي تتدفق في الشارع مولية وجهها وحواسها صوب الجامع.
عند وصولنا إلى المدخل توضأت وقرأت الفاتحة، ولبست كيسا بلاستيكيا في حذائي كالآخرين.كانت الناس تقترب من مقامه في خشوع وتضرع، فجلال الدين الرومي كان إمام مسجد قونيا في القرن الثالث عشر الميلادي قبل أن يكون قبلة أهل قونيا بشكل خاص وتركيا وكثير من بلاد العالم والمتصوفين في جميع أنحاء العالم بشكل عام. عند اقترابي من الضريح غشاني خشوع وغمرتني لحظات من الغبطة الروحية، مررت كالآخرين بالضريح وأنا أتمتم بعض الأوراد وعرجت في الطريق كالآخرين على معرض صغير لبعض المقتنيات لصاحب المقام جبته وطرب وشهو بعض لوازمه الشخصية، ثم على مقربة منه مصطبة مرتفعة في طرف المسجد يقف عليها ثلاثة تماثيل في رقصة صوفية.
لطالما شدني إلى الصوفية ( قول أبي يزيد البسطامي في حب الله:ليس العجب من حبي لك وانأ عبد فقير، ولكن العجب من حبك ليوأنت ملك عظيم ) بقينا في المقام والمعرض المتاخم قرابة الساعة فصلينا الظهر والعصر معا.
في طريق العودة ...كنت أتناول الكباب اللذيذ في أحد المطاعم الشعبية وأنا أقلب في عقلي قصة قواعد العشق الأربعون وأدعو الله أن يوفقني إلى المكان الذي جمع العلوم الدينية بالصوفية في شخصي جلال الدين الرومي واستاذه شمس الدين التبريزي، ومع مرور كل دقيقة كان الهاجس يكبر والأفكار تتزاحم فيعقلي، ترى أهو قريب من هنا؟ وماهي المسافة؟ تتقاطع هذه الأسئلة مع هاجس ضيق الوقت.خرجنا مترجلين وفي لحظة قفز إلى ذهني سؤال أين مقام شمس الدين التبريزي؟ وكان حد سيفي مكانه أجابني الشاب بإشارة من يده خلف الحديقة التي على يمينك ومضى بعد أن دخلنا الحديقة أشار إلينا أحدهم على نحو عادي جدا هو ذا.. أتعنى هذا المسجد الصغير؟! - بلا.
خلعت حذائي وبالمثل زوجتي ووضعته في المكان المخصص في الرف الثالث حال دخولي المسجد لبستني مشاعر روحانية عالية جداً لم أعهدها تنم عن قدسية غير عادية للمكان ورأيتني أتقدم مشدودا إلى الضريح الذي وضع في جانب من المسجد قرأت سورتي الفاتحة والإخلاص متبوعتين ببعض الأوراد، كان كل شيء في المسجد من الروحانية والقدسية والبساطة ما أصابني بدهشتين كادتا ان تفسدا علي غبطتي العالية وهما علو روحانية المكان وقلة مرتاديه!!؟؟فتذكرت قول الامام علي ابن أبي طالب (ع) "لا يستوحشنك طريق الحق لقلة سالكيه".جلست أتأمل فيما أنا فيه بينما مضت زوجتي تنتظرني في الخارج.في تلك اللحظة نُودي لصلاة العصر فأم المصلين قيم المسجد.
تفادياً للإحراج قررت البقاء في الخارج لحين انتهاء الصلاة.وكانت المفاجأة الغير منتظرة وهو اختفاء الحذاء ؟!. بدأ عليّ الارتباك وأنا اقلب الأحذية فأشار علي أحدهم أن افحص كل حذاء على حدة، عملت بنصيحته فلم أجده..بدتُ مدهوشا كيف لي إن أخرج حافي القدمين ومن أين اشترى حذاء جديد و وو... بعد أنيئست واستدراكا للوقت استعنتب زوجتي،أعلمتها بالأمر فدخلت الباحة ووضعت يدها بالضبط على حذائي كما لو كانت مشدودة إليه بخيط خفي!بينما مررت عليه مراراً من بين نحو عشرين حذاء دون أن ألاحظه!!...عند المساء كانت صورة صاحب الضريح تتراءى أمامي، هيئته، رجل نحيف البدن يجلس فوق أعلى صخرة متفكرا بينما يسند رأسه بيده اليمنى تحت ذقنه.
فيعصر اليوم الثاني يوم العودة قصدنا المطار الساعة السادسة والنصف مساءً لإكمال إجراءات السفر قبل الوقت كانت الأمور على خير مايرام إلا من إشعار شفوي تبعة إشعار بالخط الأحمر على شاشة الرحلات بأن هناك تأخير لمدة ساعة ونصف في الرحلة، كانت هواجس يأن نصل اسطنبول لشراء بعض الحاجيات وبينما نحن على هذا الحال حتى وصل إشعارآخر هناك تأخير آخر ساعة ونصف، هنا وجلت جدا وبدأت أسأل إذا بالإمكان أن يضعوني على أية رحلة أخرى وسوف أدفع الفرق إن لزمالأمر ولكن لا حياة لمن تنادى! تدافع المسافرون علي مكتب المدير يريدون إجابة عن سبب التأخير خوفا من عدم اللحاق برحلاتهم المرتقبة في اسطنبول ولكن المشكلة أن الرجل المسئول لا يحسن اللغة الانكليزية.!!
وفي هذه الأثناء أعلن عن تأخير جديد في الرحلة ولكن الوقت غير معلوم تبعة همس بين المسافرين بأن الطائرة لن تأتي اليوم فطار لبي إذ أمامنا رحلة يوم غد الساعة السابعة صباحا إلى باريس وإذا فاتتنا تلك الرحلة الله وحدهيعلم كيف سنخرج من هذا المأزق, حاول بعضنا جاهدا التفاهم مع الإدارة ولكن الكل يتنصل من أيةإجابة كان التعب والقلق قد أصابنا ونحن على أعتاب الحادية والنصف مساءً وأنا أدعو الله أن نصل اسطنبول في وقت يمكننا من أخد حاجياتنا من الفندق والذهاب للمطار، لا يمكن وصف شعوري من هول الصدمة بينما إخوانناالأتراك لا يتعدى الأمر بالنسبة لهم مجرد باص قد تأخر عن موعده!
بعد تأخير دام 5 ساعات ونصف أقلعت الطائرة وعند وصولنا اسطنبول بلغنا الفندق الساعة الثالثة صباحا ومن شدة التعب نمنا ساعتين فقط عند الخامسة و10دقائق أوصلنا التاكسي إلى مطار أتاتورك الدولي ولدهشتي لم تكن رحلتنا رقم 1804 ضمن قائمة مسجل الرحلات وعند إطلاع أحد الموظفين على التذكرة أجاب أنتم في المطار الخطأ وعليكم أن تقصدوا مطار صبحة ثم سألني ألم تري التذكرة إلى سواق التاكسي قلت: بلى. قال:أدركوا مطار صبحة بسرعة.أصابني هلع شديد وأنا أمام فصل جديد..يا إلهي ليس الآن.. ولكني تمالكت أعصابي وسألته كم يبعد مطار صبحة عن هنا؟ وكم أجرة التاكسي؟نصف ساعة في أحسن الأحوال وتحتاج 150 ليرة في الحال سحبت 200 ليرة من الصراف الآلي على عجل.
انطلق بنا التاكسي بسرعة 120 كم، كنت أدعو الله طول الطريق أن نصل المطار على الوقت في هذه الإثناء بزغ الفجر كانت كل دقيقة تأخير تدفعنا نحو هاوية التأخير والتخلف عن إدراك الرحلة، وصلنا المطار السادسة والربع صباحا سألت أحدهم أي جهة نذهب وما أن رأى التذكرة حتى اعتذر بأن الوقت قد تأخر كثيرا...يا إلهي ليس الآن ليس الان
ولكنني لم أيأس فذهبت إلى الموظفة على الكاونترالمختص بالتذاكر وكانت تتقن العربية وما أن رأت الجوازات الحمراء حتى سألتني هل عندكم فيزا إلىفرنسا ففتحت الصفحة وما أن رأتها حتى سألتني: كم عدد الحقائب؟ فقلت :ثلاثاً فقالت: لا بأس ضعهم على الميزان اسمعا جيداً:خدا الكارت الخاص بالمقعد واجريا بسرعة حتى تصلاإلى البوابة 4 هل سمعت أسرعا لا تتوقفا لا تتوقفا،في تلك اللحظة شعرت كما لو أنأحدهم صب دلو ماء بارد علي..فيأقل من دقيقة بلغنا البوابة وانأ ما زلت ألهث واتصبب عرقا وفي العشر دقائق التالية كنا على متن الطائرة والمضيفة تقدم لي كأساً من الماء.
عندما أقلعت الطائرة رحت استذكر فصول المأساة التي مررنا بها من يوم أمس الساعة السادسة والنصف حتى هذه اللحظة كنا نسابق الزمن بين قونيا واسطنبول وباريس لأكثر مناثنتا عشرة ساعة مزيج من الترقب والهلع والخوف !! .الملفت عند زيارة ضريح شمس الدين التبريزي تلمس البساطة والوحدة والبعد عن الأضواء على خلاف مقام تلميذه جلال الدين الرومي المحاط بالناس في حياته وبعد مماته بشكل يدعو إلى الاستغراب والتساؤل؟
عندما سألت أحدهم أجاب: شمس التبريزيهو المحيط ومولانا جلال الدين هو البحر، هكذا هو الأمر عاش درويشا في بلاد الله الواسعة ومات شهيدا شبه مغيبا إلا ممنيجلونه ويعرفون قدرهومقامة وربما لمسأهلقونيا بعض كراماته المستترة في أشكال قد لا ترقى العامة إلى فهمها فتركوا زواره على طبيعتهم دون تدخل أو توجيه.
اخبرني أحد المتصوفة المصريين أنهفي كل زيارة له إلى أستاذه في السودان تمر رحلة العودة بمحن شديدة وتتجاوز الساعات المعلومة إلى ساعات طوال وربما تستغرق اليوم كله وعند سُؤاله عن السبب قيل له: هذه علامات على أن الأستاذ متمسك بك ولا يرغب استعجالك في الذهاب فقال بدهشة: أو يفعل بي ذلك؟! لم؟ ولكني لا أنكرأن القدوم في الغالب كان سهلا وميسرا للغاية ؟! فردوا عليه:وهذه علامة أخرى أيضا،هو لا يفعل ذلك عن قصد أنما هي رغبة استاذ كفياست بقائك لوقت أطول فيسهل قدومك ويصعب رحيلك!؟ولكن الأمر يتم هكذا ترجمة لرغبته من شدة رغبتك وحبك لزيارته.. أفهمت ؟.
أخبرتني سيدة بحرينية انه في إحدى زياراتها الى كربلاء وفي يوم العودة تحديدا فقدوا بطاقة المقعد (بوردينك كارد) الخاصة بها في الدقائق الاخيرة ,وقد بلغ بها القلق والهلع حد البكاء وفى اللحظات الاخيرة ادركوا الامر وركبت الطائرة وكانت المفاجأة فقد استقبلنها الزائرات بالضحك والزغاريد وعندما استعلمت عن سر هذا الاستقبال اجبنها بأن (ما مررت به من محن) من علامات قبول الزيارة !!