نظام الأفلاج أو نظام القنوات التحت أرضية، هو نظام لنقل المياه من العيون الطبيعية لمناطق بعيدة، وهو يتكون من قنوات محفورة تحت الأرض، ولهذه القنوات فتحات ظاهرة فوق سطح الأرض تسمى محلياً «الثقب». وهذا النظام كان متعارفاً عليه في البحرين، وكان منتشراً في قرى الساحل الغربي، بالإضافة لقرى المرخ وسار والقرية والجنبية. هذا، ولا يعرف بالتحديد متى بنيت هذه القنوات، إلا أنها بدون شك بنيت في إحدى الحقب التاريخية التي حدث فيها أعلى نسب الاستيطان في البحرين؛ حيث تعتبر هذه القنوات من مظاهر الازدهار وتوسع الرقعة السكنية.
يذكر، أن عدداً من الكتاب يفترضون أن هذا النظام الإروائي في البحرين بني في حقبة السيطرة الساسانية على البحرين الكبرى (225م - 650م)؛ باعتبار أن الساسانيين طوروا من هذا النظام في مناطق محددة كانت خاضعة لسيطرتهم. وهذه الفرضية ذكرها جواد علي في كتابه «المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام»:
«وفي جزر البحرين قنوات يضن أنها من عمل الساسانيين، أقاموها للاستفادة من المياه المتدفقة من العيون، وهي أخاديد حفرت في الأرض ثم بطنت بمادة تمنع الماء من التسرب إلى التربة ثم سقفت بصفائح من الحجر» (علي 1993، ج2 ص 648).
وقد تحولت هذه الفرضية إلى نظرية، ثم بدأ بعض الكتاب يوردونها كحقيقة علمية. وهذه الفرضية تتعارض مع نتائج الدراسات الآثارية، فقد أوضحنا في الحلقات السابقة أن الدراسات الآثارية تشير لوجود استيطان محدود في قرى الساحل الغربي في الحقبة الساسانية، بل تشير إلى أنها هجرت بعد العام 450م. فمتى بنيت هذه القنوات إذاً؟. لا يمكن الإجابة على هذا السؤال إلا بعد تحديد حقب التوسع في الاستيطان في البحرين، وخصوصاً في المناطق التي تنتشر فيها هذه القنوات. يذكر، أن هناك ثلاث حقب زمنية حدث فيها توسع استيطاني ملحوظ وهي، فترة دولة دلمون (2000 ق. م. - 1800 ق. م)، وجزء من الحقبة الهلنستية الواقعة بين الأعوام (250 ق. م - 150م)، وفترة الدولة العيونية وما بعدها، وبالتحديد القرنين الثاني عشر والثالث عشر الميلاديين. ففي أي حقبة من هذه الحقب بني نظام القنوات؟ أم أنه سيبقى سراً مجهولاً؟.
نظام القنوات وحقبة دولة دلمون
سبق أن تناولنا في سلسلة مقالات سابقة تطور «دولة دلمون»، وذكرنا أن الحقبة ما بين 2050 - 1750 ق. م. تعتبر فترة الذروة لدولة دلمون. ونتيجة للتوسع المطرد الذي بدأ في دلمون قرابة العام 2050 ق. م، نشأت، في البحرين عدد من المدن والمعابد الدلمونية، بالإضافة للعديد من القرى الدلمونية. وبدأت تلال القبور تنتشر بصورة كبيرة في الجزء الجنوبي من البحرين. يذكر أنه كان يوجد العديد من تلال القبور الدلمونية، تتركز في مجموعات، وتمتد جنوباً من شرق قرية كرزكان، وعلى طول الشريط الموازي للساحل الغربي، وصولاً لمنطقة أم جدر. وغالبيتها تقع ما بين مدينة حمد وقرى الساحل الغربي، كرزكان، والمالكية، وصدد، وشهركان، ودار كليب، وهي ذاتها المواقع التي ينتشر بها نظام القنوات التحت أرضية.
المعابد الدلمونية والعيون الطبيعية
في الحقبة ما بين 2000 - 1800 ق. م. تأسست سلطة سياسية مركزية لدلمون، والتي قامت بتوحيد التشريعات والقوانين، ومن ذلك توحيد طرق بناء المستوطنات والمعابد حيث أن كل مستوطنة يوجد بالقرب منها معبد قريب من مصادر المياه. فقد بنيت معابد باربار على مصادر المياه؛ حيث أن قنوات المياه التحت أرضية تمر من تحت المعبد. ويرجح أن المعبد، والكهنة الذين يعملون فيه، يمثل منطقة تحكم، فيقوم بتوزيع المياه على الأراضي الزراعية المختلفة (Hojlund 1989).
النموذج ذاته لمعبد باربار تم استنساخه لبناء معبد آخر في الجنوب الغربي لهذا المعبد، إنه المعبد الذي عرف باسم «معبد الدراز»، والذي يرجح أنه بني على قناة مائية تتحكم أيضاً في توزيع الشبكة المائية التحت أرضية؛ حيث يرتبط بهذا المعبد عين تاريخية قديمة هي عين أم السجور. وقد سميت هذه العين بهذا الاسم وذلك لكثرة «السجور» أي القنوات الفرعية التي تخرج منها؛ فالسجر وجمعها سجور تعني اصطلاحاً السواقي المتفرعة من قناة العين الرئيسية وهي أصغر منها. وبالمثل معبد سار، حيث يرجح أنه كانت هناك عيون طبيعية وقنوات ماء تمر بالقرب أو من خلال المعبد (Glover 1997, p. 87).
كذلك، فقد عثر على آثار تدل على وجود معبد دلموني، وذلك بالقرب من الزلاق، وهي منطقة لا تبعد كثيراً عن دار كليب وصدد حيث تنتشر العديد من القنوات التحت أرضية، وهي متصلة بعيون ماء موجودة في القرى القريبة كصدد وشهركان، مما يعزز فرضية أن المعابد الدلمونية كانت تقام على مصادر المياه، كنوع من أنواع مراكز التحكم في توزيع المياه.
كذلك فإن القنوات التحت أرضية توجد على أعماق كبيرة، وهي مغطاة بكمية كبيرة من الرمال، مما حدى ببعض الآثاريين أن يفترضوا أن هذه القنوات ربما بنيت في تلك الحقبة (الهاشمي 1979) و (Bibby 1970, pp. 52-53). أضف إلى ذلك، أنه عثر بالقرب من نظام القنوات التحت أرضية في قرية صدد على فخار يعود للحقبة الدلمونية 2000 - 1800 ق. م (Larsen 1983, pp. 192 - 194).
تعارض الفرضيات والمعطيات الآثارية
من خلال التحليلات السابقة، والمعطيات التاريخية فقط، يمكن للبعض أن يرجح أن البحرين القديمة ربما كانت «من مراكز ابتكار طريقة الأفلاج الإروائية أو تطويرها» (الهاشمي 1979). إلا أن الدراسات الآثارية تشير إلى أن أقدم نظام للقنوات التحت أرضية أو الأفلاج تم توثيقه في إيران؛ حيث يرجح أن الفرس صمموا تقنية الري التحت أرضية في وقت ما بين 1000 ق. م. - 800 ق. م. (Magee 2005). كما ترجح الدراسات انتقال تلك التقنية من الفرس إلى مناطق أخرى، منها بلاد الرافدين؛ حيث أن الملك الآشوري سارجون الثاني (722 - 705 ق. م.) ذكر على إحدى الألواح أنه تعلم نظام الري بالقنوات التحت أرضية من الفرس وذلك خلال حملته حول بحيرة يورومية في شمال أرمينية، كما، بنى سنحاريب ابن الملك سارجون قصره في نينوى قرابة 700 ق. م. وزوده بالماء بواسطة نظام القنوات (Lightfoot 2000). كما يرجح أن تقنية بناء الأفلاج انتقلت إلى الجزيرة العربية من الفرس أيضاً؛ حيث أن أقدم الأفلاج، التي تم تحديد زمن بنائها، في سلطنة عمان ودولة الإمارات العربية المتحدة تعود لنفس الفترة التي ظهرت فيها الأفلاج في إيران (Cordoba and Del Cerro 2005) و(Magee 2005).
الخلاصة، على الرغم من معرفتنا لوجود وازدهار وتوسع في الرقعة الزراعية في البحرين القديمة، كما تم العثور على دلائل تشير لوجود تطور حضاري في المنطقة، وتطور طرق بناء قنوات مائية، وطرق التحكم بها، إلا أننا لا نمتلك دليلاً آثارياً يؤكد أن نظام الأفلاج أو القنوات التحت أرضية تم تطويره في حقبة دلمون، فهل أدخل للبحرين في حقب تاريخية لاحقة؟ هذا ما سوف نناقشه في الحلقة القادمة.
جميل
موضوع جميل ورائع عن تاريخ البحرين