لا يوجد في هذه اللحظة التاريخية العربية حقل يفوق في أهمية ضرورة مواجهة إشكالاته بحلول جماعية جريئة حاسمة أكثر من حقل التراث الفقهي الإسلامي. إن عدم حل تلك الإشكالات التي تراكمت عبر القرون لن يؤثُر فقط على مكانة الدين وسيرورته في المستقبل وإنما ستكون له انعكاساته السلبية على كل محاولات إخراج الوطن العربي من تخلُّفه وعجزه وصراعاته العبثية ليصبح وطناً قابلاً لممارسة قيم ومنجزات الحداثة، ابتداءً بمتطلبات الحرية الإنسانية المسئولة كقاعدة لكل حقوق الإنسان الأخرى، مروراً بممارسة العقلانية العلمية الناضجة المتوازنة في حل مشاكله وتخطيط مستقبله، وانتهاءً بالوصول إلى المجتمع الديمقراطي العادل في السياسة والاقتصاد والاجتماع.
فإذا أضفنا إلى ذلك جنون الممارسات الهمجية الجهادية التكفيرية من قبل داعش والنصرة وأخواتهما في طول وعرض بلاد العرب باسم ذلك التراث الفقهي أدركنا أهمية وحجم وعمق المجابهة المطلوبة، مواجهة جماعية مؤسساتيُة لا فردية، مواجهة شاملة لا جزئية، مواجهة جريئة لا مترددة، أي مواجهة وجودية.
إن اختلاف الفقهاء التاريخي فيما بينهم حول فهم نصوص القرآن، وحول عدد وصحة الأحاديث النبوية وأساليب جمعها، وحول أصول الفقه وقواعد استنباطاته، منذ القرن الثاني الهجري إلى يومنا، هو دليل على وجود نواقص في بعض أسس الفقه، وعلى الحاجة لمراجعته الدورية الدائمة، وعلى محدودية فكر الفقهاء كبشر، وبالتالي على عدم قدسية وكمال ذلك التراث الفقهي.
من هنا جرت محاولات جادة فردية كثيرة عبر القرنين الماضيين، تحت شعارات مراجعة الفقه الإسلامي بكل مسمياته ومدارسة، وإصلاحه وتجديده ليكون قادراً على المساهمة في الإجابة على التساؤلات التي تطرحها تغيرات العصور من جهة، وعلى الأسئلة التي تثيرها تلك التغيرات في عقل ووجدان المسلم القلق الضائع من جهة أخرى.
ولم تكن تلك المحاولات مقتصرة على بعض علماء الفقه، بل امتدت لتشمل الكثير من الكتاب والمفكرين من ذوي الخلفية في شتي العلوم الاجتماعية والفلسفية وحتى التخصصات العلمية البحتة.
ولما كان ذلك الفقه يقبع في قلب الثقافة المجتمعية العربية، بتأثيراته المباشرة وغير المباشرة، وبانعكاس بعض إشكالات قراءاته واستنتاجاته سلباً على السلوكيات والقيم الثقافية، وعلى محاولات بناء حياة مجتمعية عقلانية ديمقراطية متحررة من الطائفية وصراعات التاريخ العبثية، فإن موضوع إصلاحه وتجديده لا ينحصر في فضاء الدين فقط، وإنما يتعداه إلى كل الفضاءات الحياتية الأخرى.
الأمثلة كثيرة، فالمرأة العربية التي أصبحت تكون النسبة الأكبر من طلبة وخريجي الجامعات العربية، وبالتالي تدخل بسرعة مذهلة في عالم المهن والوظائف والمراكز القيادية، وتقترب من أن تكون مستقلة اقتصادياً ومالياً ومكانة في العائلة والمجتمع، لا يجوز أن تحكمها قراءات فقهية ماضوية وضعت في حينها لامرأة جاهلة قابعة في بيتها قليلة الخبرة الحياتية ومعتمدة في معيشتها على ما تجود به أريحية زوجها، إن الجزء الأعظم من فقه المرأة إذن يحتاج إلى مراجعة وتجديد، بل وتثوير.
إن الحاجة لمثل تلك المراجعة والتجديد تنطبق على مواضيع لا حصر لها ولاعد من مثل معاني الجهاد وحدوده وسوء فهمه، أو تقنين عصري لشروط إقامة الحدود، أو تجديد لمعاني الردة الملتبسة وحرية الاعتقاد، أو تعريف عصري لوظائف المسجد، لتكون مرتبطة بحاجات الناس اليومية، أو إنهاء الجدل العقيم حول معاني الشورى والتعددية وحرية التعبير وولاية الفقيه وعدم تعارضها مع المبادئ الديمقراطية، بل وسد النواقص الكثيرة في فقه السياسة وعلى الأخص بالنسبة لحقوق الإنسان والدولة المدنية، وعلاقة الدين ورجال الدين بالسياسة، والإجابة على مئات الأسئلة المتعلقة بالاقتصاد والمال والتأمين والفنون والاكتشافات الهائلة في العلوم البيولوجية والصحية والفضائية.
ويرتبط بموضوع الفقه موضوع الجدالات التي لا تنتهي حول تاريخ الأحاديث النبوية وطرق جمعها ومادس فيها وما وضع منها لتبريرات سياسية، ومافي كتب جامعيها من أحاديث لا تنسجم مع النصوص القرآنية ولا مع السيرة النبوية ولا مع المنطق والعقل، وهي نفس الأحاديث التي يستعملها التكفيريون لتبرير همجيتهم وينشرها بعض الدعاة والوعاظ من الجهلة الانتهازيين والمرتشين بينما هي لا تليق بعدالة وأخلاقية وثورية الرسالة السماوية ولا بنبيها وإنما تؤدي إلى تكوين عقلية خرافية تتسلَى بالقشور والبلادات والهوامش.
والسؤال: من الذي سيقوم بالمهمتين لإخراج الثقافة العربية من محنتها؟
إذ لا يمكن الاعتماد على جهود هذا الباحث أو ذاك الفقيه أو المفكر، فهي جهود فردية يظل تأثيرها في حلقة صغيرة من القراء والمثقفين، بينما تبقى الملايين من العرب تعيش في كنف تأثيرات تلك الإشكالات والنواقص على عقلها الجمعي وعلى سلوكياتها اليومية، وعلى انعدام فاعليتها في الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية.
والجواب هو أنه آن الأوان لقيام مؤسسات مجتمعية، مستقلة عن تأثيرات السلطات السياسية والسلطات الفقهية الرسمية أو ذات المصالح النفعية الضيقة، مدعومة وممولة من قبل قوى المجتمعات المدنية، تضم علماء الفقه المستنيرين، غير الملوثين بالسياسة والمال والسلطة وعلماء العلوم الاجتماعية الإنسانية والتاريخية والفلسفية والعلوم الطبيعية والبيولوجية وباحثين متفرغين، وذلك من أجل القيام بتكوين تيار فقهي علمي مستنير يتخطى نواقص الماضي ويبني فقهاً لا يشوه ثقافة الأمة من جهة، ولايقف حجر عثرة في وجه وحدتها ومشاريع نهوضها ومحاولات بناء حداثتها الذاتية القادرة على التفاعل الندي الإبداعي مع حداثات الآخرين من جهة أخرى.
جهود الماضي المقدرة في علوم الفقه والحديث تحتاج إلى جهود مراجعة وتنقيح وتثوير وتحديث من أجل الحاضر والإعداد للمستقبل، إنها مهمة تاريخية وجودية.
إقرأ أيضا لـ "علي محمد فخرو"العدد 4857 - الخميس 24 ديسمبر 2015م الموافق 13 ربيع الاول 1437هـ
وماذا عن حزب ...
كلام جميل من الدكتور ولكنه لم يتطرق لحزب الله ام الرقابة قطعت كل ما يشوه حقيقة حزب الله
لاتمدح ....
يادكتور لاتشوش ....علينا تري احنا مو ناقصين ابروحهم شايفين روحهم علينا ويحاچونا من طرف خشمهم بعد اتجي انت وتقول ....صارت متعلمة ومستقلة عزة الله رحنا وطي منهم...
مقال رائع
مقال رائع لسعادة الدكتور يعبر فيه عن ماوصلت اليه الامة من تغليب الفكر الفقهي على كل مناحي الحياة حتى في حالة عدم امتلاكه القدرة على حل قضايا ومشكلات المجتمعات الانسانية
داعش لم تأتي بجديد 2
كنت قبل فترة اقرأ مقال عن قطع الرؤوس في اللوحات المعروضة في المتاحف الأوروبية حيث ان الفنانين في في تلك الفترة اي في القرون السوداء حتى قيام قيام الثورة الفرنسية حيث تجد مئات اللوحات تبين قطع الرؤوس وايوم نجد قطع الرؤوس من داعش وزمرته باقتباس قتاوي واراء ....
مقال رائع يلامس الجرح الدامي
لكن الدعوة الى قيام مؤسسات مجتمعية مستقلة للتصدي للأشكالات الفقهية تبدو شبه مستحيلة اذا لم تكن مستحيلة لكن نتمنى أن يتحقق مسعى ودعوة الدكتور في ولادة مثل هذه المؤسسات لما لها من ضرورة قصوى من أجل انتشال مجتمعاتنا من سيطرة رجال الدين والفكر الديني على عقول العامة من أجل دولة مدنية ديمقراطية يزدهر فيها العلم والتكنولوجيا لا الخرافة والدبح
مقال
تأذن في خرابه هذه مجتمعات التقديس والعنف وحب الدماء والحقد الطائفي والتعصب يستبعد فيها الفن والموسيقى والنحت والاستنارة الفكرية والحريّة الفكرية والفلسفة . فمن أين ستبني حضارة على هذه القاعدة ؟