محمدٌ... هبة السماء
في يوم كئيب بدت نحوسته للعيان، وأطلت عليه نازلة لم يشهد لها التاريخ نظيراً... أفلت فيه شمس النبوة ولا عود لها من بعده، فقد اتشح الإسلام بالسواد لما حلّ به من جلل خطب، اندك عمده وانحنى قطبه.
خطبٌ بكته أملاك السماء، وناحت عليه عيون الموحدين وغيرهم، فيالها من داهية عظمى ألمت بالبشرية في مشارق الأرض ومغاربها، وقد عز عليهم فقد أعظم شخصية في نسق الإنسانية منذ بدء الخليقة لخاتمتها.
خطبٌ تلجلج ثغر الدين لمصابه، وأي فقدٍ كان! فلقد كان رسول الله (ص) قرآني الخلق، متكامل الصفات، حتى خاطبه العلي الأعلى في محكم آياته (وإنك لعلى خلق عظيم)، فهو النهج المستقيم الذي لا يحطّ من قدره على مدى العصور والأجيال، ولا تدنثر آياته، فمعالمه باقية شامخة ممتدة لا تشوبها شائبة.
لقد اثرى المصطفى (ص) العالم المادي والمعنوي معاً وتغلغل بأوساط مجتمعه داعياً للهدى والخير وتآلف القلوب، وأشرقت أضواؤه المحمدية على الأمة باختلاف نوعها وجنسها.
لقد بذل كل مابوسعه لاجتثاث جذور الكفر والضلال وصبّ جهوده المباركة لإصلاح ماكان سائداً في تلك الحقبة من اعوجاج وانحطاط وجهل، فعمل على نشر الدعوة من جانب والانفتاح المفهومي الجديد من جانب آخر، وعمد إلى نبذ كل ما هو مسيئ من سلوكيات وسد بؤرتها.
واقتضت رسالته الأزلية المباركة تقويماً للأسس وانتهاج مبدأ الإصلاح الذاتي العام، فساوى بين الطبقات، وآخى وقرّب بين الجنسيات ولم يفرق بين عربي أو أعجمي إلا بالتقوى، ووأد كل ذي صلةٍ بالتواطئ والنفاق، ولم يتوانى عن مبادئه ولا قيد أنملة حتى أنه أوذي من قريش وكان يصرّح: ما أوذي نبي كما أوذيت.
لاقى ما لاقى من اعتداءٍ نفسي وجسدي، لكنه بكل ما أوتي من حزم وعزم واجه هذا التحدي وأصر على إكمال مشروعه الموكل به من قبل السماء، ولم يدع ثغرة تسيء للإنسانية إلا وسد منفذها، وقد قام (ص) بنشر العلوم والمعارف ومكارم الأخلاق، ورفع راية الدين الحنيف خفاقة على ربوع البسيطة، وجاهد في الله حق جهاده كي تستوي جادة الإسلام وتستقيم سبله،
وحارب كل أنواع الترسبات والفساد وتصدى للرد على الشبهات، ووقف حائلاً دون الإيقاع بمفاهيمه الشامخة على جميع الأصعدة، وفي مقام آخر واجه الغزاة والمعتدين الذين طالما أضمروا السوء للإسلام وقدّم القرابين تلو القرابين في سبيله وكرّس جل جهده للذود عن بيضة الإسلام، وحرص كل الحرص على المواجهة السلمية إلا في حالات تعرضت ساحة الإسلام للغزو وقد تربص به الأعداء وحاولوا النيل من قدسيته واغتياله بعدة طرق وفي أوقات متفاوتة.
تصدّر خاتم المرسلين (ص) قائمة العظماء كما نشرت إحدى الصحف الغربية نظير ما حققه من إنجازات ميدانية ومعرفية، وكان رؤوفاً حليماً مفعماً بالأبوة الروحية اتجاه أبناء الأمة واستقطب الكثيرين بحسن خلقه، مهتدياً بهدى خالقه: (ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك). وكان يمارس الإرشاد على جميع الصعد والمستويات، مخاطباً الناس على قدر عقولهم. فسلام عليه يوم ولد قبساً ونوراً ويوم ارتقى إلى ربه صابراً محتسباً ويوم يبعث حياً ليكون شاهداً وشفيعاً.
نهاية الحواج
بالرجوع إلى ما نشر في «الوسط» باسم بان كي مون الأمين العام للأمم وبمناسبة «اليوم الدولي لمكافحة الفساد» الذي يتزامن مع يوم (9 ديسمبر/ كانون الأول 2015) أود التعليق بأنه شئنا أم أبينا، الفساد الإداري والمالي مستشرٍ في العالم الثالث، بالإضافة إلى أنه مرض عضال صعب العلاج، وهو يساير قانون الجاذبية، فهو يسري من الأعلى إلى الأسفل وليس من الأسفل إلى الأعلى، فالمرؤوس يخاف من الولوج في هذا المضمار إذا لم يرَ توجهاً من رئيسه نحو الفساد، والسؤال الذي يطرح نفسه هو: لماذا وإلى متى سيستمر انتشار هذا المرض في العالم الثالث؟ وهل له من علاج أم أنه عادة مستدامة إذا لم يعمل بها شخص فهو إنسان غبي يجب إصلاحه ليتكيف مع الفساد؟ فمثلاً لو تم تعيين موظف جديد وبعد مدة ليست طويلة شاهد زملاءه يحملون معهم، بعد انتهاء الدوام، ما يحتاجون إليه من قرطاسية للتوزيع على أولادهم للاستخدام في البيت، فهو يساير الزملاء، ويقلدهم ويعتبر ذلك أمراً معتاداً لا غرابة ولا مخالفه فيه!
وفي الدول المتقدمة حيث هناك رقابة على موظفي الدولة، فمن الصعوبة بمكان انتشار الفساد لسببين أولاً أن عادة الفساد غير منتشرة، وثانياً لو انكشف أي أحد منهم، مهما بلغ منصبه، فإنه سيشهر اسمه ويقدم للقضاء جهاراً.
وما جاء في رسالة بان كي مون بمناسبة يوم الفساد يبين الآثار الكارثية نتيجة تفشى الفساد فهو سلوك «إجرامي ينخر نسيج المجتمع» إلى جانب أن هناك اتفاقاً عالمياً عامّاً بأن السبب الرئيسي للتخلف هو الفساد الإداري والمالي، وما لم تقم دول العالم الثالث بالتوصل إلى علاجات لهذا المرض فإن التخلف سيدوم.
عبدالعزيز علي حسين
العدد 4857 - الخميس 24 ديسمبر 2015م الموافق 13 ربيع الاول 1437هـ