كلما يمّمت وجهتك في شوارع بيروت وزواريبها الجانبية، فاجأتك الصدمة من حيث لا تحتسب، الفقر يقفز صارخاً في وجهك بمناداة ماسحي الأحذية أو باستجداء بائعي السجائر والعلكة والأقلام عند نواصي الأرصفة والإشارات الضوئية أو صامتاً بيأس وإحباط وقهر وجوع في عيون الأمهات ممن يحملن أطفالهن على الأكتاف ويجرجرن آخرين في ذيل أثوابهن في هجرة وتهجير لا يهم، ففي نهاية المطاف إنه وحش القتل والموت ودرب التّيه.
يتقافز البؤس والتوحش من حولك، ومشاهد اليأس وإذلال التشرد تتنقل بين عينيك، توخز ضميرك هنا وهناك. الأسئلة تتكاثر في عقلك والإجابات تتشتت وتتداعى في وضعٍ لا يحتمل التأويل ولا التنظير. الصور عناوين للحالة البائسة المستعصية التي أصبح عليها عالمنا بكل تناقضاتها العارية لمشردي الشوارع في مدن المرارة العربية إلى الهاربين نحو المتع الوقتية في رحلاتهم الاستجمامية.
شردتنا أنظمة الفشل والاستبداد والدكتاتوريات جميعاً، فمن أحضان الأمهات ومن دفء البيوت والأعشاش ومن حلاوة اللقمة المغموسة بالحلال بعد جهد يوم متعب، إلى الأرصفة وناصيات الشوارع حيث تمتد الأيادي بإذلال أمام مداخل الفنادق، هذا يصرخ في وجههم ويشتم، وآخر ينكزهم مرة وأخرى بخجل، وآخر يغط الطرف عنهم، قائلاً:
-»خليها على الله، حسبي الله ونعم الوكيل... بيروت ستنفجر من هالكم مليون من اللاجيئن... البلد ما عاد فيه يتحمل...».
***
لا يمكنك المقاومة، دموعك تحتبس أحياناً، وأحياناً أخرى تنهمر كسيل دامٍ بلا توقف إزاء طفل جائع ينتفض برداً في ذاك المساء الشتوي الدافئ، يمد يده الصغيرة:
-»منشان الله خالتو... منشان الله... لقمة... أنا جوعان... صار لي يومين ما أكلت».
يكسر الزمن رتابته، يعود بك شريط الذكريات إلى تلك اللحظة الحميمية وأنت تحتضن كف صغيرك الدافئة الناعمة بيد وتدعس اللقمة بيد أخرى،.. يا الله، كيف تبلع لقمتك، كيف تهضمها، قبل أن تتقيأها وتتقيأ معها حالتنا المزرية.
نتخيل ويصيبنا الوهم بسهامه للنخاع، نلملم حالتنا أملاً وهرباً لأيام وأسابيع راحلين إلى مدن الدنيا عل نفوسنا تهدأ، علها ترتاح من عناء ضغط وحكايات تنتهك فيها حرمات الإنسان ويحجر الرقيب على اللسان والقلم والقلب والعقل، نعم إنه الوهم هرباً للشمال وللشرق وللغرب... لكن الحالة تأبى إلا أن تفرش لك أجنحتها وتسرد نفسها وتصير أنت معها الواهم بالراحة والاستجمام جزءاً لا يتجزأ من الضياع في شوارع الفقر والعوز الباردة تلك التي يفترشها الأطفال والفتيات الصغار ممن تعلو وجوههم براءة وانكسار وحزن دفين يمزقك إرباً إرباً ويلقي عليك سؤالاً تلو الآخر، لا تدري من أين تبدأ الإجابة عليه، أمن وجوه أمهاتهم المشردات اللاتي يقفن خلفهن وعلى أذرعهن طفل آخر رضيع، أو من الآباء أو الأزواج أو الإخوة المحاربين الأشاوس في جبهات الاقتتال العبثية، أم في ذاك البرد القارس الذي لم تعد تشعر به وترتعد، سوى أنه كان يوما ما يتصدر مواضيع التعبير التي كنت تكتبها في دفاتر الإنشاء، تبقى الإجابات معلقة موجعة برسم الكبار الذين يحددون مصائرنا ويتسببون في تدميرنا، تبّاً لهم جميعا.
***
التشرد والضياع هو أن تسكن الشارع، أن يصير بيتك وملاذك، وإن كنت محظوظاً، فستكون لديك بضاعة تسوقها ذهاباً وإياباً، قد تكون كلمةً أو خدمةً، وقد تكون طعامًا، لا يعلم إلا الله كيف استطعت النجاة والوصول به بأعجوبة من قصف المدافع وشحنات القذائف المنهمرة من كل صوب أو من براميل النار المتدحرجة، هارباً أنت بها من حرب ضروس، لاهثاً أنت يحذوك الأمل في ترويجها ببضع آلاف من الليرات المختبئة في محفظتك، ليرات لا تحل ولا تربط في حالتك، حالتنا المستعصية من البؤس، يروج بضاعته:
-»تين، ذوقي ستنا التين من الشام بالجوز... ذوقي ستنا اللوز... شوفي ما أحلاه... والله ما فيه منه... بأي سعر؟ تأمري ستنا الله يخليك... لازم تشتري».
إنها ليست عملية بيع وشراء حقيقية كما اعتدنا، هي في مضمونها وشكلها استجداء وحاجة ملحة، و»ست الستات» فاقدة الرغبة والشهية للتين واللوز المعجون بمرارة الموت، هي ضعيفة وعاجزة وحزينة ولاتزال تتقيأ الحالة وتهرب خجلاً من فقر فاقع يكسر القلب ويدميه بمشاهد شباب بعمر الزهور لم تبتلعهم تنظيمات الإرهاب بعد، وها هي الشوارع والأزقة تكتظ بهم عوضاً عن مقاعد المدارس والجامعات ومراكز التدريب والألعاب والحدائق، أي جفن يغمض وأي عين ساهرة على الحق تنام، ومأساة أمتنا العربية تتمدد وفشل أنظمتها الاستبدادية الدكتاتورية ينتشر في عروقنا كما السرطان.
***
تتلألأ شوارع المدينة بالأضواء وزينة شجيرات أعياد الميلاد، كل ما حولك يدق أجراس موسم الأفراح، يعلن اقتراب نهاية العام، لكن الغصة تخترقنا من الوريد إلى الوريد وسط ظلام دامس يكمن في قعر دواخلنا وانكسار نفوسنا، فالتشرد والقتل المجاني صار على مرمى من أقدامنا، ومع ذلك غمرتني في قاعة الانتظار بالمطار ابتسامة «بيار» البريئة بملابسه الأنيقة النظيفة، ابتسامته المشوبة بذكاء حاد ونظرة فضول ركزت على قطعة كعكة الشوكلاته التي بين أصابعي وأنا أهم بمضغها بشهية، أسأله بالإشارة إن كان يرغب بتقاسمها معي؟ ينظر لي بحلاوة طفولية تدخل البهجة إلى نفسي وتدفعني للابتسام، بإشارة أفهم أن لا مانع عنده شرط أن أستاذن والديه، ابتسم موافقة، يكشف والده أمرنا مبتسماً، أقدم له كعكتي سعيدة كالأطفال يبتسم بفرح، ثم يمضي راحلاً مع أهله في مسار خط المهاجرين على ما يبدو من سنين.
إقرأ أيضا لـ "منى عباس فضل"العدد 4855 - الثلثاء 22 ديسمبر 2015م الموافق 11 ربيع الاول 1437هـ
كاتبة إنسانة
أصبت كبد الحقيقة ، و وصفت الحال لمن لا يعي.
قلم يكتب للإنسانية ؛ آجرك الله على كل كلمة
لقد أجدت الوصف
ربما هذا من أجمل المقالات التي قرأتها للكاتبة
ولكنه للأسف يمثل واقعا مرا
رحم الله تلك الأمم
مقال واقعي
هذا واقع البلدان التي ارادت لنفسها ان تكون خارج اسوار الحكومات على الاقل رئيسكم ارحم من داعش واخواتها والتشرد والجوع نعم خذلوكم باوهامهم وعنصريتهم
لا حول ولا قوة الا بالله
هل هكذا ارادوا لهم الديمقراطيه هذا انانيه وغطرسه والضحيه الاطفال والامهات يراميل النفط تسرق وتهدر الاموال