عندما لم تر الهوليوودية الجميلة، التي اكتسبت بين ليلة وضحاها لقب أميرة وصاحبة السمو، طريق العودة من قصر مونت كارلو إلى هوليوود ممكناً، قررت العمل بنصيحة صديقها الكاهن والبقاء في موقعها أميرة لموناكو، ومواصلة التمثيل ولكن في حياتها الواقعية.
ليست هذه المساحة لاستعراض فيلم «جريس أوف موناكو» الذي اجتذب مشاهدة عالية العام الماضي بسبب الشعبية العالمية التي تحظى بها الأميرة/ الممثلة السابقة جريس كيلي، التي مثلت دورها في الفيلم الأسترالية نيكول كيدمان، كما أنها ليست المساحة المناسبة لنقد الفيلم، فقد تعرض للكثير من الجدل الفني لما اعتبره النقاد افتقاراً للحبكة والاعتماد على بريق اسم الأميرة وشعبيتها لتسويقه. كما تعرض لانتقاد كبير من قبل عائلتها التي وجدته يحتوي على معلومات مغلوطة واعتبرته غير معبّرٍ عن حياة الأميرة التي رحلت بشكل مفاجئ في حادث سيارة تعرضت له وهي في عمر 54 عاماً.
بعيداً عن النقد الفني والجدل الكبير حول حبكته الأولى التي اعتبرها النقاد ضعيفة، والتي وضعت الأميرة جريس في موقع اختيار بين العودة للتمثيل مع مخرجها ومكتشفها هيتشكوك في الدور الذي جاء إلى مونت كارلو ليعرضه عليها، وبين التنازل عن عشق عمرها التمثيل للإمارة، في قرار بدا نهائياً في تلك اللحظة، فهي ذاتها حبكة واقع كثيرين في الحياة، وتستحق الوقوف عندها وتأملها.
فبرغم الأساليب العلمية لحساب نتائج القرارات التي على الإنسان اتخاذها، والقائمة على كفتي حسنات وسيئات أي اتجاهين لأي قرار، إلا أن هناك أموراً لا يمكن قياسها بمقاييس الربح والخسارة المتعارف عليها. فقيمة العوامل التي تؤخذ في الاعتبار تختلف من شخص لآخر، مما يجعل من الصعب إشراك طرف آخر للمساعدة إلا إذا كان قريباً إلى درجة الإلمام بكل تفصيلة صغيرة ظاهرة أو خفية في الشخص، يعرف تمام المعرفة ميوله ورغباته ومحدداته وأهدافه في الحياة. ويصبح الأمر أكثر صعوبة عندما يأتي الأمر إلى قرارات يصعب العودة عنها في المستقبل، أو أنها تعني الذهاب في طريق وإغلاق الطريق الآخر وإلغاء خياره نهائياً.
بحساب بسيط وبنصيحة اتخذت نبرة الحكمة من صديقها الكاهن، قررت الأميرة، في خطوة علمت أنها نهائية، وفادحة الخسارة لتعلق الأمر بشغفها بالتمثيل منذ مراحل مراهقتها الأولى، أن ترضخ لرغبة زوجها الأمير وتتخلى عن التمثيل نهائياً في استوديوهات هوليوود والتفرغ لدورها الجديد الذي اختارته لحياتها، زوجة للأمير وأم لأبنائهما. ومع بقائها في موقعها على بُعد قارّة من هوليوود، حوّلت حياتها إلى استوديو كبير وقبلت أدواراً متعددة منبثقة عن دورها الأساسي الجديد، ولم تبقِ على فراغٍ في حياتها لذاتها الحقيقية أو هكذا بدت على الأقل، تجنباً للأسف المدمّر الذي نال منها كثيراً في بادئ الأمر.
في الحياة أيضاً، كم منّا يتوفّر له اختيار طريقه الذي يتمناه لنفسه، وكم منا لا تتوفّر أمامه خيارات ويجد نفسه مدفوعاً لطريق لا يعرف عن ملامحه شيئاً، أو ربما لا يمتلك البعض من الرؤية ما يمكنه من معرفة الطريق الذي عليه سلكه ليأخذه إلى لعب الدور المناسب. فإما أن يكون ممثلاً بارعاً يبحث في كل طريق عن دور يتناسب مع ما لديه من طاقات وقدرات، وقد يكون محظوظاً إن كان متسقاً في كله أو بعض منه مع رغبات لم تكن معرّفة مسبقاً، فيتميّز في أدائه بما يحقق له الرضا والسعادة، وإلا فإن الحياة تتحوّل إلى روتين يلعب فيها دوراً هامشياً يقف معه على حافة الرضا بما يكفيه ليكون موجوداً فقط.
توصّل بحث بعنوان «قوة الانتصارات الصغيرة» صدر عن معهد الأعمال بهارفارد في 2011، إلى أن الأشخاص الذين يحققون تقدماً كل يوم في إنجازاتهم يشعرون بالرضا والسعادة. وهذا لا ينطبق على الأعمال فقط وإنما على الحياة بشكل عام. والأمر غير مرتبط بالضرورة بالكسب المادي من وراء الإنجاز. وربما هذا ما يدفع الكثيرين للالتحاق بأعمال توفّر معيشتهم، فيما يفرّغون لأنفسهم أوقاتاً يمارسون فيها ما يرضي شغفهم بأعمال أخرى لا ينتظرون منها سوى الرضا الداخلي الذي يسبب السعادة.
قد تبدو المقارنة غير عادلة سواء في رغد الحياة أو في الضغوطات التي فرضتها تلك الحياة الرغيدة على الأميرة، عند مقارنة الأمر بالناس العاديين، لكن الإنسان هو نفسه من الداخل، فكلّ لديه أحلامه الكبيرة ودرجات الرضا من تحقيقها بالمقدار الذي يحقق له السعادة، وربما هذا ما يدفع الغنيّ ليغبط العامل الذي يتوسّد حجراً ليرتاح في قيلولته، بينما ينفق الغنّي أموالاً طائلة على وصفات طبية لعلها تمنحه ساعات قليلة من النوم على فراشه الوثير.
أميرة موناكو الجميلة وضعت أمامها أدوارها في الحياة الواقعية واعتبرت نفسها في تحدّ للتفوق على نفسها، وبرعت في أدائها كما كانت تفعل في هوليوود، وفيما قطفت هناك جائزة أوسكار، لم تتوقف في مونت كارلو عن قطف جوائز أكدت لها ولكل من عرفها، كل يوم، أنها ممثلة لا تسمح أن يصيب مهاراتها الغبار، فظلت قبلة الباباراتزي ومتتبعي أخبار المشاهير حتى اليوم الأخير الذي غادرت فيه الدنيا.
لا أحد يعلم كم من الرضا حققت هذه الأميرة في داخلها فهي في نهاية الأمر ممثلة بارعة قادرة على إخفاء انكساراتها الداخلية التي لم يوفّر متتبعوها فرصة البحث عنها في دقائق سلوكها وما يتسرب من حياتها الخاصة.
على قبرها لم يكتب الدور الذي أحبت أن تلعبه في الحياة، لكن كتب الدور الذي اختارت أن تكونه. كُتب «زوجة الأمير رينيه « كما جرى العرف في الإمارة التي اختارت أن تغيّر فيها مجرى حياتها.
إقرأ أيضا لـ "هناء بوحجي "العدد 4855 - الثلثاء 22 ديسمبر 2015م الموافق 11 ربيع الاول 1437هـ
تجربة حياتي
صحيح. يقف الانسان امام تقاطعات في حياته و عليه ان يختار احدهما. بالنسبة لي، اعترف باني محظوظ. لم اجري خلف المناصب و المال. اقتنعت بما حصلت و توكلت علي الخالق و بعد عمر طويل وحدت باني كنت منعما من قبل الخالق. و كلما اخترته من الطرق كان خيرا منه. السبب في رأيي عدم الجري هلف مظاهر الحياة و الحمد بما انعم علي و التمتع من قدراتي و السعادة من إنجازاتي. الحمد لله.