العدد 4854 - الإثنين 21 ديسمبر 2015م الموافق 10 ربيع الاول 1437هـ

الروائي الفرنسي باتريك موديانو: أصبحتُ سجين ذكرياتي في باريس

الحائز على جائزة نوبل... المُنشغل بالذاكرة والهويَّة والفقدان...

باتريك موديانو
باتريك موديانو

ينشغل الروائي الفرنسي باتريك موديانو، الحائز على جائزة نوبل في الآداب العام 2014، عن روايته «كي لا تضيع في الحي»، التي صدرت في العام نفسه، بحقبة الحرب العالمية الثانية، بدءاً من روايته الأولى «ميدان النجمة» التي صدرت في العام 1968؛ وصولاً إلى روايته التي حاز بفضلها على الجائزة العالمية. بمعنى آخر تتحرك فضاءات رواياته ضمن حدود الذاكرة/ الذكريات، تلك التي قال عنها بأنها جعلته سجينها... سجين ذكريات باريس خصوصاً؛ حيث تأخذ الذاكرة نواة ومرتكزاً لمعظم أعماله، يؤكد ذلك ما ورد في تقرير لجنة نوبل الأكاديمية التي قدَّمت جانباً من حيثيات فوزه بالجائزة بسبب تمكُّنه من فن الذاكرة الذي أنتج أعمالاً تعالج المصائر البشرية العصيَّة على الفهم، وكشف العوالم الخفية للاحتلال»؛ حيث تبرز موضوعات شاخصة مثل: الهوية والفقدان والأمل؛ بحسب تعبر سكرتير اللجنة بيتر إنغلوند.

في روايته الأفق» التي صدرت في العام 2010، لم ينأ عن موضوع الهوية، وهي على تماس مع الشعور الفردي بالضعف... تناول للفوضى والعبث، سِمتان لا تغيب عنهما المجتمعات الإنسانية اليوم. وهو يغوص في الماضي، إنما يومئ إلى الحاضر بكل التناقضات التي تعترك فيه.

جزء من أعماله تلك جاءت استلهاماً من العذابات الشخصية التي عرفها فترة طفولته، في أربعينات القرن الماضي. الأب الذي اعتاد موديانو على غيابه. الشوارع... الأمكنة العامة... المقاهي... اليافطات على المحلات كل ذلك عالق في ذاكرته، وكان بمثابة مادة إلهام وأمكنة وفضاءات تتحرك فيها شخصيات أعماله الروائية.

رواية «الأفق» تبدو قصة رومانسية، لكنها تستند إلى قصة حب يُحاصر بالخوف والعذابات في الوقت نفسه.

في روايته الأخيرة «كي لا تضيع في الحي»، تشتغل على ما يشبه اللغز، وذلك اشتغال وتناول لم يعهدهما قرَّاء موديانو؛ لكنه لا يبرح الثيمة الثلاثية: الحزن، الغياب والذاكرة؛ حيث امرأة غامضة تقضي سنوات في السجن، التزوير في وثائق السفر، رجل يمارس الابتزاز بشكل سافر... عوالم الملاهي والكازينوهات، انتقالاً من فتح تحقيقات لدى الشرطة إلى الدخول في الحالة الفردية من ذلك التحقيق الذي مجاله الذكريات، والتوغل في الجغرافيات

تلك إلمامة ببعض عوالم موديانو، تسبق التقرير واللقاء السريع والعابر الذي أجراه يوان كاميرون، من صحيفة «الغارديان»، يوم السبت (31 أكتوبر/ تشرين الأول 2015)، تنشر «الوسط» أهم ما جاء فيه، مع جانب من المقدمة والانطباعات التي كتبها كاميرون بداية التقرير.

أن تجوب الشوارع بمفردك

في إيجاز له حول شجرة نسبه، مُتناولاً قصته الغامضة والمرتبطة بأيامه الأولى وهو يلج سنته الحادية والعشرين، يصف باتريك موديانو كيف أنه في العام 1959، وكان في سن الرابعة عشرة، وكانت والدته حينها تؤدِّي عملاً على الخشبة في مسرح «فونتين»، بدأ استكشاف حي بيغال في باريس. لقد كان هناك، في شارع فونتين، وما يرتبط به من شوارع ومناطق؛ حيث انطلقتُ وللمرة الأولى بخفة على تضادٍّ مع أسرار باريس وخباياها. حين كان في السابعة عشرة كتب بأنه لم يكن سعيداً سوى حين يجوب بمفرده شوارعها. ومنذ ذلك الحين، كان يقف على تفاصيل مواقعها، أسماء الشوارع، وكانت الجغرافيا الحضرية الموغلة والدقيقة للعاصمة، سِمَة من سمات كل شيء كتبه تقريباً.

المؤرَّقون، جو الحزن المُخيِّم على الطبقة العاملة... المقاهي، والكراجات، الفنادق المُتهالكة والنوادي الليلية سيئة السمعة، متاهة الأحلام في الجادَّات والشوارع والساحات... ومحطات المترو، يلتقي كل ذلك في رواياته رفقة الأصداء المكسورة لموديانو، تلك التي طبعتْ طفولته التعيسة.

تظهر في كثير من أعماله الشخصيات الغريبة والغامضة والشرِّيرة، وتختفي من السرْد دون سبب واضح. إنها باريس التي يستحضرها، في بعض الأحيان، بنمطيَّة الأفلام التي تُعبِّر عن مزاجها في: «سنوات جولييت غريكو».

كنت مُدمناً (محرِّر التقرير) ولزمن طويل على المشي في أحياء مختلفة من باريس، وينتابني سحْر أشعر به، انجذاباً إلى أسماء الشوارع. هذا، جنباً إلى جنب مع الاهتمام الثابت بالسؤال: عمَّا يجب أن تكون عليه الحياة في المدينة أثناء وساعة احتل موديانو قناعتي وتفكيري باعتباره المؤلف المثالي بالنسبة لي. عندما سنحت الفرصة لذلك، بترجمة روايته الأخيرة، «كي لا تضيع في الحي»، وصدرت العام 2014، وهو العام نفسه الذي تُوِّج فيه بجائزة نوبل، فضلاً عن عمله العام 2007، «في مقهى الشباب»، انطلقت باتجاه التحدِّي. دُعيت مؤخراً لمقابلته.

الجانب الطبوغرافي في الروايات

موديانو في السبعين من عمره الآن، متَّحد في حواسه، ورجل كتوم بشكل مُوغل، وفي انشغال دائم. بقامته الطويلة، ودماثة الطريقة التي يعبِّر فيها عن اعتذاره، وما يبدو عليه من استخدام إيماءات يده بشكل مُفرط. مُتردِّداً يبدو، أو ربما غير حاسم في إجابته على الأسئلة، ويبحث دائماً عن الكلمة الصحيحة، أو ما يعتقد أنها الصحيحة، هو من بين الذين يكون الحذف ضمن توظيفاتهم للخروج بالنص في هيئته الباهرة (كاتب كثير الحذف)، ولا يغفل عن التدقيق في علامات الترقيم، فهي جزء لا يتجزَّأ من النص وبنائه، تلك الدقة، ستجدها في الكثير من شخصيات رواياته أيضاً.

في تقصٍّ عميق - سبق اللقاء - لشقته التي تقع بالقرب من حديقة لوكسمبورغ، حيث يعيش مع زوجته (دومينيك)، قرَّرت أن أركِّز على الجوانب الطبوغرافية من رواياته (هو المهووس بالأمكنة والشوارع وقراءة اللافتات، والمهووس بالمقاهي. تشكِّل المدينة وشوارعها مادَّة خصبة للكثير من أعماله. منها ينطلق في تحديد أن تكون مواضع وأمكنة لشخصياته).

«أنا استخدمها في محاولة للحصول على نقاط وملاحظات مرجعية. تعمل المباني على استحضار الذكريات، وتوفير دقة أكثر، تكون على توافق وتناغم في تحديد أفضل ما يُمكن أن يَقبض عليه الخيال. عندما كانت طفلاً ومن بعدها مُراهقاً كنت سريع التأثر بشكل كبير... المؤثِّر يتحدَّد في هذه الانطباعات المُهيمنة التي تصبح فيما بعد أسيرة للذكريات التي تحتوي كل شيء أيضاً. هناك صور تسعى نحوك على امتداد حياتك... عندما كنت طفلاً، كانت حياتي العائلية غير المستقرَّة إلى حدٍّ ما، وكنت غالباً ما أُترك رفقة الأجهزة والأدوات المتوافرة في ذلك الوقت، وفي ذلك إمكانات ستشكِّل قدراتك فيما بعد. بدأت أتجوَّل في شوارع المدينة، وبدأت أشعر بمزيج من الخوف والانبهار، وأنا أجبر نفسي على المضيِّ قدماً انطلاقاً من المنزل في كل مرة».

المناطق النائية... الأرض الحرام

في روايته «الأفق» التي أصدرها العام 2010، يكتب موديانو عن شخصيته الرئيسية «بوسمان»، بأنه «لم ينسَ أبداً أسماء الشوارع وأرقامَ المباني. كانت تلك طريقته الخاصة في مقاومة اللامبالاة، وعدم الكشف عن هويته في المدن الكبيرة، وربما أيضاً بسبب أوجه عدم التيقن من الحياة نفسها».

تحوي الكثير من روايات موديانو إشارات إلى حدود غير مرئية، إلى «مناطق محايدة»... المناطق النائية والأراضي الحرام، ويُصبح القارئ مُنغمساً في جوٍّ غريب من حياة مُحدَّدة من باريس؛ حيث تلمح الشخصيات كما لو كانت تتحرَّك في الضباب. تعمد تلك الشخصيات إلى تغيير هوياتها، وغالباً ما تستخدم أسماء مستعارة، بينما الشوارع والعناوين وأرقام الهاتف من الطراز القديم (على سبيل المثال دانتون 5561) وهي مُحدَّدة تماماً. عند عبور الشخصيات نهر السين، على سبيل المثال، تتغيَّر الحالة المزاجية. عندما تمشي الشخصيات تلك تحت جسور المترو المكتظة بين محطتي «سيغور» و «دوبليكس»، يلِجون المنطقة المحايدة. يبدو الأمر كما لو أن موديانو خلق الجغرافيا الباريسية كي تستوطن الذهن، تماماً كلوح يُكتب عليه أكثر من مرَّة، وفرضه بذكريات على الأحياء السكنية نفسها.

في الجولات الليلية، تنزلق على طول شارع هوسمان والشوارع التي تشرّح المدينة القديمة في العصور الوسطى. شارع de l›Aude»» مليء بالخطر، ويعمل على إثارة باريس في فترة ما بعد الحرب الجزائرية.

باريس مُغطَّاة بورق السوليفان

ومثل بودلير من قبله، أعرب موديانو عن أسفه العميق للدمار الذي حاق بمناطق باريس القديمة. «في زمن بودلير تم تدمير منطقة كاروسيل بأكملها، وكتب قصيدة عن ذلك. في الوقت الحاضر باريس معقَّمة نوعاً ما، وأصبح كل شيء أكثر اتساقاً، ولكن لايزال هناك شيء غريب وغامض حول بعض الأحياء» (...) غالباً ما يكون لديَّ شعور بأن باريس مُغطَّاة بطبقة من ورق السيلوفان، وأشعر كما لو أن ذكرياتي أصبحت وهمية وتخيُّلية تقريباً. إنها بالأحرى مثل الحيوانات الأليفة المُحبَّبة - كلب أو قطة - يتم حشوها وإرسالها إلى المُحنِّط. يمكن أن تتعرَّف عليها، لكنها لم تعد على قيد الحياة».

ذكريات لا يُمكن الاعتماد عليها، ولا يقين فيها، تستحضر الخيالات من مرحلة موديانو في شبابه، وغالباً ما تعاود الشخصيات الظهور في أعماله؛ ما يُعطي انطباعاً لكثيرين بأنه يكتب الرواية نفسها من جديد. وتلك وجهة نظر لا يُنكرها موديانو. وعن ذلك قال: «اعتقدت بأنني سأقوم بكتابة الروايات بطريقة مستمرة، في فترات مُتعاقبة من النسيان، ولكن في كثير من الأحيان، تظل الوجوه هي نفسها الوجوه، الأسماء نفسها وكذلك الأماكن، والجُمَل نفسها تتكرَّر من واحدة إلى أخرى، مثل الأنماط في نسيج واحدٍ (...)».

«مثل كل أولئك الذين وُلدوا في العام 1945»، ذلك ما قاله موديانو في خطابه أمام الأكاديمية السويدية في ديسمبر/ كانون الأول 2014، بعد حصوله على جائزة نوبل في الآدب. «أنا طفل جئت من زمن الحرب، وبشكل أكثر تحديداً، منذ أن وُلدت في باريس، الطفل الذي يُدين بولادته إلى باريس زمن الاحتلال». وقد تمَّت تنحية تلك السنوات جانباً، وسرعان ما تم نسيانها من قِبل العديد ممن ينتمون إلى جيل والديه، واستكشف عدد قليل من الكتَّاب الفرنسيين واقع الاحتلال، وسنوات ما بعد الحرب مباشرة بشكل مؤثر جداً.

ضوء

يذكر أن باتريك موديانو ولد في العام 1945، من أب ذي جذور إيطالية يهودية مشهورة، وأم بلجيكية تُدعى لويسا كولبين. التقى والداه في باريس خلال الحرب العالمية الثانية ونشأت بينهما علاقة عاطفية لم يعلنا عنها في بدايتها. نشأ بين غياب أبيه عنه وبين أسفار أمِّه المتعدِّدة، ولم يتمكَّن من إتمام دراسته الثانوية إلا بعون من الحكومة. صار مقرَّباً من أخيه رودي، الذي توفي جرَّاء مرض أصابه وهو في سن العاشرة، وذلك هو ما يُفسِّر أن أعمال موديانو بين العام 1967 و 1982 مُهداة إليه.

ألَّف أكثر من عشرين رواية، وطرح روايته الأولى «ساحة النجمة» وهو في الثالثة والعشرين. حمل بعضها مأساة طفولته ومراهقاته، كما نقل مشاهد العديد من المصائر الإنسانية. وتتمحور معظمها حول مدينة باريس خلال الحرب العالمية الثانية، يصف فيها أحداث مأسوية على مصائر أشخاص عاديين.

حازت روايته «شخص مفقود» على جازة غونكور الفرنسية العام 1978، وفاز العام 2012 بجائزة الدولة النمساوية للأدب الأجنبي. وفي العام 2014، حاز على جائزة نوبل في الآدب.

له من الإصدارات: «ساحة النجمة» (1968)، «دائرة الليل» (1969)، «شوارع الحزام» (1972)، «المنزل الحزين» (1975)، «كتيِّب العائلة» (1977)، «شارع الحوانيت المُعتمة» (1978)، «شباب» (1981)، «مُستودع الذكريات» (1986)، «دولاب الطفولة» (1989)، «سيرك يمرُّ» (1992)، «محلب الربيع» (1993)، «بعيداً عن النسيان» (1994)، «دورا بروريه» (1997)، «مجهولون» (1999)، «الجوهرة الصغيرة» (1999)، «حادث مرير» (2003)، «مسألة نسب» (2005)، «في مقهى الشباب» (2007)، «الأفق» (2010)، «عشب الليالي» (2012)، وفيها استلهم قصة اختطاف المهدي بن بركة، و «كي لا تضيع في الحي» (2014)، السنة التي تُوِّج فيها بجائزة نوبل.

له مساهمات في عالم الفن السابع (السينما)، ومن بينها: «لاكومب، لوسيان: (مع لويس ماليه) (1973)، «رحلة سعيدة»، مع جان بول رابيني، (2003)، إلى جانب الأعمال التي تم اقتباسها من مؤلفاته، ومنها: «الشباب»، من إخراج موشيه مزراحي (1983)، «عطر إيفون» مع رواية «البيت الحزين»، من إخراج باتريس لوكونت (1994).

غلاف رواية «الأفق» في نسختها الفرنسية
غلاف رواية «الأفق» في نسختها الفرنسية




التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً