خلقت وسائل التواصل الاجتماعي، في جانب من استخداماتها، توحُّشاً وثرثرة وبطالة من نوع آخر. توحُّشاً بالجرأة في البذاءة لتصفية الحسابات أحياناً، في مواجهات افتراضية، تنتهي بطريقة ما إلى مواجهات واقعية على الأرض، أو من خلال ردود الفعل. بمعنى آخر انتقال العداوات الافتراضية إلى عداوات ستتبدَّى في صورة من الصور واقعاً على الأرض، وثرثرة بالكلام (الكتابة) الذي لا قيمة لكثير منه، وإن كانت له قيمة، فليس هناك موضعه ومكانه، كلام ممتد، يفترض أن البشر كل البشر يملكون من الفراغ ما يسدُّونه بأي شيء، وكل شيء، وبطالة بتكريس ساعات في فضائها، ونقل الغث والسمين إلى من تعرف ومن لا تعرف. ولكم من صور البطالة ما لا يُعدُّ ولا يُحصى في هذا الصدد؛ فليست البطالة ألاَّ تمارس شيئاً؛ إذ يمكنك أن تكون منهمكاً وأنت تمارس البطالة باحتراف، حين لا يكون لكل ذلك أي مردود على الناس والمحيط الذي تتحرك فيه.
بعض تلك الوسائل تحوَّل إلى كابوس «لحْظي» وليس كابوساً يوميّاً فقط. من بين تلك الكوابيس، البشر (الكائنات) التي على التصاق حدَّ الإدمان ببرنامج المحادثة «واتس أب»، وغيره أيضاً، ذلك الذي يعجُّ بلازمة «كما وصلني»، وتعني مزيداً من الشائعات، ومزيداً من الأخبار التي قد تخرِّب بدل أن تبني، وتفجع أنفساً بدل أن تعمل على راحتها ورفاهيتها، وقد يكون من وراء تلك اللازمة الشخص نفسه (الموصِّل)!
تحتاج إلى ساعات كي تقرأ ما يتم إلقاؤه في صفحتك، وكأن الصفحة تلك بما يُلقى فيها، لا تختلف عن مكبٍّ للنفايات.
التواصل جميل، لكنَّ الأجمل منه أن يكون تواصلاً ذا قيمة ومغزى وهدف. كثير من ذلك التواصل فيه دعوة مفتوحة للانقطاع، والنأي بعيداً عن إهدار الوقت الذي لا قيمة له، ولا معنى له في عالم لا تهمُّه حركة العالم، مادام في انتظار ما تتمخَّض عنه تلك الحركة من اختراعات واكتشافات ومنافع تمتدُّ إلى العالم؛ فيما يكتفي بعضهم بالاستهلاك. كثير من ذلك التواصل -على الأقل الافتراضي منه -عبر «واتس أب» وغيره من البرامج، هو بمثابة تواصل على رصيف أو حمَّام عمومي؛ إذ لا تعرف كل الذين يرتادون الحمَّامات العمومية، وتكتفي بالسلام عليهم دخولاً أو خروجاً، هذا إذا كنت في مزاج أصلاً لإلقاء التحية، قبل وبعد أن تلبِّيَ نداء الطبيعة! لكن أن تقف عند «المغسلة»، وتفتح حواراً عن ظاهرة الاحتباس الحراري، أو ارتفاع أسعار اللحوم، أوتوقيف 10 من قرية (يُفضَّل عدم ذكر اسم القرية هنا!) فأنت في الفضاء الخطأ، قبل أن تكون في المكان الخطأ!
كذلك هو الحال في فضاء تواصلي افتراضي، يصبح بمثابة الحمَّام العمومي حين تسمح لنفسك باقتحام خصوصية الناس على مدار الساعة؛ بلا مراعاة للوقت، ولا مراعاة لطبيعة ما تمَّ إرساله وقيمته، فإذا كانت كل تلك الفضاءات الافتراضية قد ألغت كثيراً من الخصوصيات، وبشكل افتراضي أيضاً، أو من المفترض أن يكون الأمر كذلك، فإن من يسيء استخدام تلك القيمة والمنصَّة يتبرَّع من تلقاء نفسه لاقتحام خصوصيات الناس، والتعدِّي على أوقاتهم؛ سواء كانوا يقظين أو نائمين. إنه يقتحم عليهم خصوصياتهم في صور واقعية.
بعضهم لا يُريد أن يفهم، أو ربما «يستهبل»، حين لا يجد تجاوباً، أو ردّاً على أكوام ما يبعث به يوميّاً، بأن الأمر بلغ حدَّه، ولا خيار للطرف المُستقبِل غير الصمت، وبمعنى من المعاني، هي رسالة تقول: أنت غير مرحَّب بك»، ولكن بأدب شديد، وأحياناً هناك من يمتلك الجرأة لوضع حدٍّ لذلك الاقتحام اللحظي، وذلك الكابوس الذي يرافقنا في اليقظة، كما هو الحال في المنام.
هنالك أيضاً الاقتحام والانتهاك الجماعي لخصوصية البشر، والعمل على إزعاجهم، من خلال برنامج «واتس أب» وغيره من البرامج، بذلك «التوكيل المفتوح» الذي يتوهَّم بعض أنه يحمله، بإضافتك إلى مجموعة محادثة (أكثرها في غالب الأحيان تكون مجموعة ثرثرة) من دون أن يأخذ رأيك؛ لأنه لا رأي لك أساساً - هكذا يفترض مطمئناً، أو هكذا يفهم الأمر - وحتى لو وضعتَ الهاتف على الخيار الصامت، أو أغلقْته، ستعود إليه بين لحظة وأخرى وقد عجَّ بهراء وثرثرة وتفاهة، ويظلُّ القليل من القيمة والمعنى ضائعاً وسط كل ذلك، وعليك أن تبحث عنه بمجهر كي تصل إليه، ولا وقت لديك أساساً كي تقوم بذلك.
ارحموا خصوصيات البشر، والأوقات والظروف التي لا تكون بالضرورة ملائمة لهكذا استخدام سيئ لأي برنامج أو منصَّة تواصل.
صحيح أن الخصوصية تم كشفها افتراضيّاً في عالم المنصات والبرامج تلك، لكن بعض البشر يعملون على اقتحام تلك الخصوصيات في عالم واقعي، من المفترض أنهم جزء منه، بالتربية والأخلاق والذوق والمراعاة، وهو ما لا يحدث، ولا أهمية له عند كثيرين.
لا أحتاج إلى ممارسة استدراج من نوع مّا، كي أذكِّر بالعودة إلى عنوان المقال: «كابوس كائنات الـ «واتس أب»، فالكابوس يأتي من بشر لا يُحسنون استخدام منصات وبرامج فيها الكثير والعظيم من الفائدة، وفي بعضها الطريق إلى تحقيق الأحلام ربما، والأوهام أيضاً؛ لكن بعضهم يصرُّ على تحويل تلك الأحلام إلى كوابيس. إنها الكوابيس التي يتعهَّدها أولئك، وليست كوابيس «واتس أب» أو غيره من البرامج.
ارحموا خصوصيات الناس وعزلتهم، فبعضهم يجد في تلك العزلة فضاءه الذي يحب أيضاً، كما يحب بعض أن يكون ضمن «حشْر مع الناس عيد»، فلا هو أثَّر على الحشْر، ولم يَطَلِ العيد!
إنه زمن الإجهاز على الخصوصية بامتياز. زمن الكوابيس!
ضوء
«كنت أظن أن أسوأ شيء في الحياة هو أن تكون وحيداً؛ لكن أسوأ شيء في الحياة هو أن ينتهي بك الأمر مع أشخاص تشعر معهم بالوحدة».
روبن ويليامز
إقرأ أيضا لـ "جعفر الجمري"العدد 4853 - الأحد 20 ديسمبر 2015م الموافق 09 ربيع الاول 1437هـ
الواتس آب أفشل مشروع
باختصار مشروع فاشل زادت كراهية الناس لبعضها وقام كل واحد يستعرض قواه بالكتابة والرد على الثاني من ورا الكيبورد الله يهدي النفوس
توجد ضبابية في فهم الخصوصية
ما ادري وش دخل الخصوصية باشتركك في مجموعة واتسب؟ تقدر تعتذر وتطلع
الاشتراك في مجموعة واتسب ما تعني خلاف الخصوصية لانها مجموعة رسائل تستلمها او انت ترسلها
الامر الثاني ليش دائما نبقي اللوم على برامج أو أدوات احنا نستخدمها ونستفيد منها وهي حاجة ضرورية لتطور حياتنا؟
اعتقد ان مثقفينا يحتاجون اشوي الى اعادة صياغة التفكير والثقافة اللي يحملونها
فعلاً
موضوع جميل ، وانا عن نفسي انتقي جيداً القروبات المفيدة والتي استطيع الاستفادة منها واتجنب دائماً الثرثرة التي لا معنا لها
احسنت
الصراحه اني من النوع اللي احب الهدوء فعشان جديه مومشتركه بأي قروب والرسايل اللي توصلني من الاهل قليله جدا
تكن غريبا عندما لا تواكب الآخرين
ولكن الاجدر كما اضن ان الشخص يشترك في گروب عائلي او غيره ويحاول ان يكون بوصلة يرشد التائهين والمتساقطين ليعودا الى جادة الطريق
احسن حل
من اربعة اشهر والحمدالله كتبت في الحالة "التواصل للضرورة فقط" وبدون قروبات وراحة بال ونفس وقلب