حينما تخلو قاعاتي الشعرية من الأكسجين بسبب الازدحام، فإن أكسجين الشعر والحب هو الذي يُحييها ويسيطر على تلك الحالة الهائمة بيننا، فالناس أعطوني كميةً من الحب أعجز عن تصويرها في لقاءٍ شيق، يقول نزار قباني الشاعر الأنيق والمثقف، والذي عشقه الملايين أحاول رسم بلاد لها برلمانٌ من الياسمين وشعبٌ من الياسمين، تنام حمائمها فوق رأسي وتبكي مآذنها في عيوني، أحاول رسم بلادٍ تكون صديقة شعري ولا تتدخل بين ظنوني، أحاول رسم بلادٍ ولا يتجول فيها العساكر فوق جبيني، تكافئني إن كتبت قصيدة شعرٍ وتصفح عني إذا فاض نهر جنوني.
كلام قاله منذ أكثر من عشرين عاماً، وكأنه قائله بالأمس لم يتغير الحال على رغم تبديل الأنظمة والانفتاحات على العالم، بل ازداد انغلاقاً وكآبةً وتملقاً، ويتابع بأن الصحافة منافقة ولا تعرف قيمة المبدعين، وتكتب عنهم ليومٍ أو اثنين وترثيهم، وبعدها يُنسى المبدع إلى الأبد، وحيث إن دولنا لا تهتم كثيراً بالمبدعين، فعلى أثريائنا الاهتمام بالثقافة والرفع من مستواها بالتبرع من أموالهم في تكريم الفنانين من كتابٍ وشعراء أو علماء، وبعمل قاعاتٍ ثقافية تُسمى باسمهم أو مدرسة أو على الشوارع والأماكن الحيوية في البلاد (كما يكرِّمون مبدعين في العالم)، وأرى الإبداع هو حالة انسجامية مع الكون وجرأة للعطاء الخارق للعادة، لا يتمكن منها إلا القليلون، لذلك يجب تقديرهم وتوفير الأجواء لاستمراريتهم وعدم هجرتهم، أنا لدي مسئولية إيقاظ الناس، وتوعيتهم وأن أرمى على أهل الكهف جردل ماءٍ بارد لإيقاظهم من سُباتهم كما كتبت في ديواني (خبزٌ وحشيشٌ وخمر).
أنا لا أخاطب الناس إنما دوري في تحريضهم، وأحرض الموتى بأن ينهضوا، وأن يتظاهروا ما بين القبور وأحرض الأشجار أن تمشي، والجبال أن تطير، أنا لا أقبل السكينة والثبات إطلاقاً، وتجدني غاضباً في بعض الأحيان، فالغضب هو قُمة التغيير وتحتاج الشعوب لأن تغضبَ كي تُحسن أحوالها، فلولا الغضب لما تحررت شعوبٌ، ولما حصلت الدول على استقلالها، فهي النار التي تُضيء الليل وتُشعل الوجدان للتغيير.
إن الجمهور طفلٌ مُراهق وعليه أن يتعلم ويتعقل ليصل إلى النضج، وذلك عن طريق حكمائه وشعرائه وفنانيه، فالمبدعون هم طليعة الأمم، وهم يصوغون ضميرها ووجدانها
فأنا أفجر وأُشعل الحرائق الثقافية كي أوقظ ضمير الأُمةِ اشعلها بالكلمات، فأُشعل أصابعي وثيابي وأحرقكم معي مثل ما حرق نيرون روما، فمنظر الغابة المحترقة جميلٌ جداً والأوراق تتغير من الأخضر إلى البرتقالي فالأحمر، وهي نظرةٌ إبداعية للتغير، أنا إنسانُ قلق، فالقلق هو الذي يخلق الإبداع ، فإذا ما كانت في بلادنا سياسة ليست عادلة، فستكون سياسة هابطة، ولن يأتي معها إلا انحطاطٌ ثقافي هابط، فالسياسيون مع الأسف لا يعرفون كيف يُعلمون بل لديهم أجندات، ومتناقضون، ولم ينجحوا إطلاقاً لتوحيد أمتنا العربية، فدخل أعداؤنا وكسروا عظامنا، وأهانوا أمتنا وكرامتنا، إنه في الأربعينات والخمسينات، كان هنالك العديد من المثقفين ذوي الهامات الثقافية الرفيعة مثل (توفيق الحكيم والعقاد وطه حسين ونجيب محفوظ ونازك الملائكة وبولند الحيدري) وغيرهم من مثقفي المهجر مثل جبران خليل جبران وميخائيل نعيمة، فقد ضم المهجر أعظم مبدعينا، فالغربة والحرية هي نار الإبداع، فالإنسان في وطننا يشعر بالغربة الفكرية والاجتماعية فهى مفروضةٌ في القيود والممنوعات، حينما لايعرف الوطن قيمة أبنائه فيتناثرون هنا وهناك ومع ذلك فهم يُبدعون.
فالوطن هو علاقة إنسانية مع المكان فحينما يحترم الإنسان مكانتي وفكري ويكون عادلاً ورقيقاً أكون معه عادلاً ورقيقاً، وإذا أهداني وردةً أهديته ألف وردة؛ ولكنه إذا ضربني على خدي الأيسر فلن أدير له خدي الأيمن، وأضيف بل سأغادر للبحث عن وطنٍ يُحبني أعطيه ويُعطيني، أما عن حبه وعلاقته بالمرأة، يقول أنا لست شهريار كما يوحون إليكم، فقد كانت النساء تُقَدم له كل ليلة، وتشكلت كقطعة لحم وجسد يلهو بها وثم يقتلها فهو انما يقتل فيها غبائها، لعدم وجود أي حوارٍ أو فكر مشترك، وحينما جاءت شهرزاد أثارت فضوله وتعلق فكرياً أكثر من جسدياً، ينتظر الحكايات المثيرة وبفطنتها وفطرتها امتلكت قلبه فتزوجها ولم يقتلها، وبذا يحاول نزار أن يعذر شهريار، بأنه لو وجد المرأة الأولى محاورة وذكية لما قتلها، ويرى بأن تُثقف المرأة نفسها وأن تُشاركه مهما كان تافهاً، وأن المرأة المنطفئة غبية، وأن الفِراش مهما كان وثيراً لا يُشبع رغباته، ويضيف نزار، لقد قاتلت وحملت المرأة على أكتافي من أجل قضاياها خمسين عاماً؛ ولكنها في عز المعركة تركتني وذهبت للكوافير!
وأقول إن هذا يحدث كل يوم بسبب الإعلام الذي يكثر في تقديم وسائل التجميل، والتركيز على النواحي الجمالية فقط للمرأة مع استغلال جسدها للإعلانات التافهة، متناسياً فكرها.
المهم، قضيت وقتاً رائعاً مع الشاعر المثقف ولقاءاته، والذي كان من حسن حظي إنني تعرفت عليه شخصياً في لندن، وكم تمتعنا بصحبته وثقافته، وكم سعدنا في قصائده، والتي غناها أروع مطربينا من عبدالوهاب، وعبدالحليم حافظ، وفيروز، ونجاة الصغيرة، ووردة، وماجدة الرومي، وكاظم الساهر وغيرهم، وأضيف أنه وعلى رغم كل همومه حينها كانت أرحم مما نراه اليوم، ومن حسن حظه بأنه قد مات أيام العصر الذهبي، وقبل أن يرى الدمار والتشتت اليوم، لكان قد مات ألف مرة قبل أن يموت. رحم الله نزار قباني وكم نفتقد أمثاله.
إقرأ أيضا لـ "سهيلة آل صفر"العدد 4852 - السبت 19 ديسمبر 2015م الموافق 08 ربيع الاول 1437هـ
روعة وكياسة
صحيخ والله كن صدقت انه لكان سيموت عدة مرات لو عاش ايامنا هذه ومن يعلم ماهو اتٍ ربما نحن نعيش احسن ايامنا واذا استمر حال ضعف وتفكم امتنا سوف نترحم على هذه الايام الله يستر بس ومقاله اكثر من رائعه
الله الله على الرقه والاحساس
اخيراً تذكر احدهم عظماؤنا من الشعراء كثر الف خيرك بان اعطي الرجل مكانته التي طالما تمنيت ان اسمع به بعد رحيله بوركت يداك
كلام واقعي ذو اعماق بعيدة ز
ف تمكنت يادكتوره من لمس شغاف قلوبنا برقة مشاعرك وعروبتك واحساسك العميق بمشاكل امتنا انا من القارئين لك دائماً ومعجب بالهامك وحسن اختيارك للمواضيع الهامه والتي تدخل في صميم احتياجاتنا الحسية والعاطفيه رائع رائع وجميل جداً هذا المقال
رائعه بامتياز
كيف تمكنت يادكتوره في وضع معظم مميزات الشاعر العظيم في مقاله فهو بحاجة الى صفحاتِ عن ابداعاته سلمت يداك